في الكتاب السيرة الذاتية -أو بعض منها- الصادر حديثا عن دار المتوسط، (2022)، والذي نال به جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات عن العام 2021، تبسّطٌ من الكاتب والشاعر والروائي شربل داغر لبعض سيرة حياة له "مضبوطة وموثّقة" على ما يشدّد، من دون قدر كبير من التخيّل والانتقائية، بخلاف ما عوّدتنا عليه بعض الروائيين والكتّاب ممن يأنفون من مغادرة الصعيد الأدبي التخييلي، ويدخلون ذواتهم وصوّرهم المثالية في صنيعهم السيري. علماً أنّ سلوك شربل داغر المضبوط والواقعي، له سوابقه في الأدب، وطليعة الكتّاب العرب طه حسين، في "الأيّام"، وميخائيل نعيمة في "سبعين"، وأحمد أمين في كتاب "حياتي"، والمئات غيرهم، أواخر القرن العشرين، وأوائل الواحد والعشرين. ومما لا شكّ فيه أنّ لكلّ سيرة ذاتية، على هذه الهيئة من الأمانة للواقع والحياة الحقيقية التي عاشها الكاتب، منذ ولادته، عام 1950، ببلدة تنورين، وإحدى ناحياتها "وطى حوب"، وتنقّله، مع عائلته، من مدينة جبيل، الى ضواحي بيروت الشمالية، حي بدوي، ومن ثمّ الى صيدا، مرسلا من عائلته الى بيت أخته بعد وفاة زوجها، وبيروت حيث كلية التربية، ومرورا بباريس التي كانت له منجىً من الحرب الأهلية، ومجالاً لمتابعة دراساته العليا، وعمله الصحفي والثقافي في الجرائد والمجلات العربية الصادرة في المدينة. والحال أنّ سرد السيرة الذاتية، في الكتاب، ينتهي بإنهاء الكاتب الراوي سيرته، في ختام المرحلة الثانوية واستعداده للدخول الى الجامعة. في الكتاب أيضا عديد من الصور الفوتوغرافية له، صغيرا، وفتى، وشابا، الى جوار أفراد من عائلته، في مناسبات زواج، وشهادة مدرسية للفتى، وصور قديمة تعود الى الجدّ والستّ وإخوان له وأخوات.
سمات كاتب السيرة
الجديد في سيرة شربل داغر، أو في المحطّات المنتقاة بعناية من حياته، على ما يفهم من كلام الكاتب في إحدى المقدّمات، أنه لا يناور، ولا يتقصّد نمذجة شخصياته، أو حتّى ذاته الموصوفة بلغته، بمعنى أنه يسعى قدر الإمكان الى نقل صورة واقعية له وللآخرين الداخلين في سيرته؛ وهذا دأبه حين يصف عائلته وصلة أبيه بأمّه الولاّدة، وإخوته وأخواته العشرة، وصفات الغضبية المرتبطة بالسلطة الأبوية لدى الوالد، وغيرها من اللمحات غير القليلة التي يقع عليها القارىْ في كلّ فصل، من فصول السيرة التسعة والعشرين، حيث يقف الكاتب على ملمح من ملامح شخصيته، وتاريخه، وتكوينه الثقافي والخلقي.
وإذ يقف القارىْ، شأني، لدى بعض هذه الفصول، على سبيل المثال لا الحصر، فمن أجل تبيين السمات التي يراها كاتب السيرة أكثر انطباقاً على ذاته، واكثر دلالة على هويّته التي تخفّفت، في طريق تكوّنها، من عديد الأوهام، والانشغالات، عدا انشغالين أثيرين: الكتابة النقدية المؤرّخة للنهضة الأدبية والفنية الجمالية، والكتابة الأدبية، ولا سيّما الشعر "حديقته السرّية" على حدّ ما يصفه في الكتاب.
في الفصل الأول، المسمّى "إسمي ليس لي"، يشرح الكاتب فيه علاقة الناس الإشكالية مع اسمه؛ إذ كان اسمه "شربل" يلاقي استحساناً لغرابته عند البعض، ولا سيما في باريس حيث حلّ طالباً أكاديميا ومشتغلا في الصحافة العربية المهاجرة، في حين كان يلقى استفساراً عن طبيعته وأصله السرياني على الأرجح، (ويعني: حكاية الله، شربو-إيل) من قبل البعض الآخر. ولم تفلح التحدّيات الأمنية التي كان الراوي قد تعرّض لها، في مسكنه بشارع محمد الحوت، إبان الحرب الأهلية، ولا أحداث الخطف والقتل على الهوية التي كانت حاصلة على أيدي التنظيمات عهدئذٍ، في حمله على تغيير اسمه. ثمّ إنّ الراوي ذاته، وقد شارف على نيل الجنسية الفرنسية عام 1994، رفض أن يتخلّى عن اسم عائلته (داغر) لصالح اسم أقرب لفظا من الفرنسية.
يستذكر الكاتب الراوي سيرته أحداثاً من طفولته الأولى؛ فيروي كيف أمكنه تعلّم نسخ الحروف بإصبعين، وكيف اكتسب الكتابة بالقلم، وبإصبعيه الصغيرتين. ثمّ إنّ مهاراته في الكتابة، على رسوخها، لم تغنِه عن استخدام الإصبعين إياهما، ولكن بإتقان زخرفيّ بات عامل جذب للزميلات في سنواته الجامعية الأولى.
ولئن كان من غير المفيد الإحاطة بكلّ الفصول، في الكتاب، ولا سيّما إذا كانت موشّحة بالكثير من الصور الشعرية، والمقاربات الفكرية الثرّة، فإنه يبقى ممكناً إيجاز العبارة في مضامين الفصول الباقيات، أو الإشارة الى أهمّ المسائل التي تطرّق اليها الكاتب في سيرته. والملاحظ في هذا الشأن، أنّ زمن السرد يبدأ، في بعض الفصول، من اللحظة الحاضرة، وقد بلغ الكاتب فيها السبعين، وهو منكبّ على الكتابة، حرفته الوحيدة، في مكتب منزله الصيفي الذي كان ذات يوم مدرسة لأبناء القرية، المدرّس فيها كان جدّه لأبيه، الذي كان شيخ صلح (أي صاحب الكلمة الفصل لفضّ خلاف بين اثنين، في مجتمعه، زمن الأتراك) وقد آل مبناه المتداعي الى الراوي، بالإرث من أبيه المنقول اليه من جدّه سابق الذكر، فأعاد ترميمه ليكون منزله الصيفي، وملتقى الأصحاب والأقارب.
اسمي ليس لي
في الفصل بعنوان "ذلك الرنين"، يلحّ سؤال الهويّة على كاتب السيرة، مشوباً بالحنين، وقدر من الحزن والخيبة من الحاضر، والذهول من تسارع الزمن، بين طفولة وشيخوخة، وسط طبيعة لم تقلّ عطاءاتها ولا مناظرها، بين أوراق شجر الجوز، وانسياب النهر عند جذوعها، ولدى أفيائها. ويقول: "منْ أنا...أيتوجّب البحث عنّي بصورة أفضل، في ما كتبتُ؟ أين لهذا أو ذاك أن يجدني".
وفي فصول أخرى يروي الكاتب ما رسخ في ذهنه عن صورة كلّ من والده ووالدته، وقد غادرهما نهائيا في عمر الر ابعة والعشرين عام 1974، ولمّا عاد منتصف التسعينيات الى لبنان كانا قد توفيا؛ يقول عن والدته (سعيدة مطر) أنّ زوجها كان قد شغلها بالإنجاب (عشرة، منهم ستة ذكور وأربع إناث)، وأنّها كانت في طباعها الليّنة والسموحة على النقيض من طباع الوالد (داغر داغر) صموت وغائب عن أبنائه وبناته، ولا يحسن المحاورة بل الصراخ، صوناً للرهبة والسلطة الابوية، على ما يبدو.
وفيما تتوالى الفصول التسعة والعشرون، تتكشّف للقارىْ ملامح أخرى كانت لا تزال مجهولة، سواء حول ذات الراوي أو حول رؤيته للعالم والعلاقات بينه وبين ذويه وأقرانه والأنثى وأمكنة السكن الكثيرة التي اضطرّ الى الإقامة فيها مع عائلته كثيرة العدد، وتبديلها والتأقلم معها كلّ حين؛ فيدرك، على سبيل المثال، أنه أمضى طفولة سعيدة نسبيا بين قريته وطى حوب صيفا، وبلدة دوما في خلال أحداث العام 1958، تقطعها لحظات قاسية من إدراك انسلاخه عن والدته لدى نزول العائلة الى المدينة. أما فتوّته في شارع مار ميخائيل-البدوي، فكانت حافلة بعلاقات مع أصدقائه من الأرمن، ممن كانوا قد استوطنوا الشارع، لأربع عقود خلت، إثر المذابح الأرمينية بداية القرن العشرين، بحيث أمكنه أن يحيك مغامراته الغرامية الأولى بمعونة هؤلاء، وأن يحقق قبلاته الأولى لفتيات ظلّت بعض ملامحهنّ محفوظة في ذاكرته الطريّة. على أنّ صلة الراوي بالكتاب، والدخول الى الجامعة، شاءها منطبعة بأول تعرّف الى مومس وتذوّق الجنس في شارع المتنبّي، مشكولاً بتصوّرات أولى عن العلاقة الجسمانية بالمرأة.
ولئن كنتُ أحجمتُ عن تناول الفصول الأخرى في سيرة شربل داغر الشاعر والكاتبـ، الشيّقة، وقد سرد فيها بعضا من ألفته مع السينما والمقاهي في برج حمود، ورهبته من مدينة بيروت، وقصيدته الأولى المنجزة عام 1971، الى جانب زملاء أوائل (محمد العبد الله، وحمزة عبود، وشوقي بزيع)، لإلقائها في الجامعة، وبدايات تعرّفه الى الحزب الشيوعي ومظاهراته في صيدا، وغيرها، فإنّي أدع للقرّاء الكرام متعة المتابعة وإبداء الرأي في نوعٍ أدبيّ ليس برائج، ولا بمغرٍ، في حسابات الأديب العربي، الضنين بالأقنعة والمثُل تجلّل مساره وأعماله.
(جريدة "النهار"، بيروت، 12-9-2022).