في حضرة شربل داغر، تأخذ الكلمات مسافة أعمق مما نتصور. ليس لأنه يثقلها بالمعرفة وحسب، بل لأنه يمنحها فرصة أن تنمو وتتفرع كأغصان شجرة تحتمل أكثر من تأويل. شاعر لا يكتفي بالقصيدة كفضاء وحيد، بل يمضي إلى النقد، إلى الحروفية، إلى الفن التشكيلي، إلى أسئلة الجمال والفكر والمعنى.
في هذا الحوار نفتح نافذة على عوالم متداخلة؛ عن الشعر كمساحة حرة للحياة، عن العلاقة المعقدة بين الكلمة والصورة، عن الحروفية بوصفها مسعى فلسفي وجمالي في آن، وعن موقع الكاتب في زمن يتغير كل يوم. هذا الحوار سير مشترك في ممرات الفكر والإحساس، حيث يلتقي الفن بالحياة، والمعرفة بالدهشة.
شربل داغر (١٩٥٠)، شاعر وكاتب وروائي لبناني يواصل ذلك الإنصات العميق الذي يميزه، ويترك الكلمات تكتشف طريقها الخاص في البوح عن الشعر والفن والتاريخ والجمال :
 
1. الشعر والرواية والبحث والترجمة، كيف تتعايش هذه الأصوات داخلك؟
* تتعايش وتتخاصم هذه الأصوات في كتابتي، كما أنها تتنكر وتتجنب بعضها البعض.
أعرف أنني أشتاق لواحد منها،  فيما انصرف لغيره من دون أن أعود إليه عودة التائب. هي ذاتي أقرب إلى دار بغرف متعددة، وإلى لسان يتمرن ويتفوه بلغاته المختلفة.
ولو طلبت أن أكون، في جوابي، أكثر تحديدا وواقعية، لقلت بأن هناك في ما أكتب ما يرتبط بفاعلية الخيال، وهناك ما يرتبط بفاعلية المعرفة.
لا أريد أن أوازن، في كتبي التسعين، بين ما يعود إلى خيالي، وبين ما يعود إلى معرفتي.
ذلك ان الخيال يلامس بحوثي كذلك، في جوانب منها، كما أن المعرفة تتسرى في جوانب من شعري أو رواياتي.
ما يحرك هذا كله هو الشغف الذي له الدفاعات وتجليات مختلفة، لكنها قد تتعالق وتتبادل علاقات سرية لم أعمل على استبيانها أو فكها.
هي ذاتي التي تشم، وتذوق، وتستعذب ما يطيب لها في الغموض الشهي والتكويني لمداعبات هواء الزمن.
2. من وجهة نظر نقدية، كيف ترى حدود التداخل بين الشعر والفن التشكيلي ؟
 
 * التداخل بين الشعر والتشكيل أعيشه بغير طريقة.
اعتنيت، منذ شعري الأول،  منذ "فتات البياض"، منذ "القصيدة الناقصة"، باللغة كفضاء متعالق ومستقل مع الوجود نفسه. هكذا اعتنيت بحرف الباء إذ يفتقد مظلته في الشتاء، وبالهاء بوصفها همس الهي والهاوية...
كما اعتنيت، من جهة اخرى، بعلاقات الحرف كما الكتابة العربية بالفنون التشكيلية، وهو ما لا انفك عن تفقده ودرسه، بما فيه في العلاقات التي افتتحًها بعض شيوخ الصوفية، لا سيما ابن عريي، في اشتغاله على "العبور" (حسب لفظه) بين الحرف بوصفه شكلاً لمعاني ما هو أبعد من الوجود نفسه.
كما اعتنيت، في جانب آخر من بحوثي، بما هي عليه العربية بين صوتها ومعناها، اذ هما يتعالقان ويتواشجان في احوال كثيرة.
هذا ما درسته في جوانب واسعة في كتابي الأخير : "العربية : أبجد خيالي".
فلقد تعلمت في "محاضرات" فردينان دو سوسور، عالم اللسانيات الحديثة، مثل غيري، ان العلاقة بين الدال والمدلول في العلامة اللغوية "اعتباطية"، اي لا يوجبها او يلزمها رابط بينهما. لكنني تعلمت كذلك عند الفراهيدي واحمد فارس الشدياق والشيخ عبد الله العلايلي ان هناك علاقات لازمة بل واجبة في بعض اشتقاقات العربية. وافسر هذا بان العربية - بما هي الأقدم بين لغات اليوم المستعمَلة - تحتفظ في بعضها بما يحيل الى اصولها، الى تكويناتها.
ذلك ان الاشتقاق العامودي (كما أسميه) المولد لالفاظ العربية يتيح التوالد والتقارب بين : قال، ويقول، وقول، وقائل، ومقال، وغيرها، بينما يقوم الاشتقاق في غير لغة اخرى وفق الاشتقاق القطاري (كما اسميه)، أي على ترابط أجزاء الكلمة مثل ترابط مقصورات القطار الواحد.
هذا ما يُبقي للصوت، للحرف، في كلمات، معان متقاربة تطيح بهذه الاعتباطية.
3. في دراستك حول "الشعر العربي الحديث" لم تكتفِ بالتحليل الجمالي، بل تعمقت في السياق الثقافي والاجتماعي. هل تعتقد أن الشعر اليوم ما زال قادرًا على التأثير والتغيير؟
 * للأسف، تراجعَ الاهتمام البحثي والدراسي بالشعر، فيما ينصرف كثير من النقد لدرس الرواية، او يستسهل النقد الثقافي.
وهذه حالً تتبعُها دورُ النشر العربية نفسها، بحيث أصبح نشر دراسات عن الشعر صعبا مثل صعوبة نشر مجموعات الشعر نفسها.
وهذه كلها احوال تشير إلى ظواهر الخفة والاستنسابية والموسمية في الثقافة وفي المجهودات البحثية. اذ إن اي ثقافة تحتاج في اشتغالاتها الدراسية إلى هذه الموضوعات المختلفة من دون تحيز او استباق.
فيما يخصني اعتنيت بدرس بل بالكشف عن بدايات الرواية العربية بالقيام بتحقيق نقدي لعدد من هذه البواكير. بل ذهبت إلى أبعد من ذلك في السنة المنصرمة اذ درست ظواهر الحكي العامي، وتفقدت اسباب عدم ظهور السرد في الماضي الأدبي العريي، واسباب رواجه بالمقابل في اوساط العامة.
اما في درس الشعر فقد انصرفت الى "تحقيب" الأطوار الشعرية التي عرفتها القصيدة العربية في تجددها ابتداء من القرن التاسع عشر...
ذلك ان درس الشعر يبقى في حسابي الدرس النقدي الامثل ما دام يستحضر ويتفقد في القصيدة مستويات مختلفة من الثقافة واللغة وتعبيرات الجمال.  
الا أن هذا لا يعني أن للشعر  قدرة تأثيرية مثلما سعت الى توكيد ذلك، وترويجه، ثقافة "شعبوية"، كفاحية مثلما يقول البعض، فأرادت أن تختصر القصيدة أو تعوض بها عما لا تستطيعه في السياسة.
للشعر قدرة، لكنها جمالية، قد تبلغ في إلماحاتها صياغة عالم مزيد.
4. كيف تقرأ ظاهرة الحروفية العربية بصفتك ناقدًا للفنون؟ برأيك هل أدت إلى مخرجات فنية حقيقية؟ ماهو الموقف النقدي مما نراه من استسهال الاشتغال الحروفي؟
* الحروفية ظاهرة أكيدة في الثقافة العربية وفي الفنون العربية الحديثة، وقد مضى على ظهورها أكثر من ثمانين سنة. ولها نجاحات مثلما لها إخفاقات. هذا ما ظهر في  انتاجات الفنون، كما في الخطاب عن الفن. وهي باتت ظاهرة ما دام الاندفاع صوبها اكيدا، سواء في التمرس بها، او في اقتنائها، او في تشكيل مجموعات منها. وهو ما بلغته كذلك متاحف دولية اذ لم تتأخر في العقود الاخيرة عن تنظيم معارض جامعة عنها، او عن صلاتها بفن الخط العربي. إلا انها عرفتْ، كظاهرة، ما هو مدعاة للمراجعة. وهو ما اوجزه في مسألتين :  
الأولى أن انبثاق الحروفية لا يعني انبثاق فن الخط القديم، اذ انهما فنان مختلفان، وإن انتظمت او تنتظم علاقات تفاعلٍ بينهما. ذلك ان الحروفية لا يمكن ان تتعين إلا في مجال الفنون الحديثة، فيما يتعين فن الخط في قواعد وتقاليد سابقة يستحسن التقيد بها والتجدد وفق أسسها.
اما المسألة الثانية فهي الاستسهال الذي صاحبَ إنتاجات الحروفية عند بعضهم، وهو استسهال انبنى على ان "تحريك" الحرف، لو تلوينه، يكفيان لجعل العمل الفني حديثا.
5. كثيرًا ما تشتبك في كتاباتك مع التراث، لا لتقديسه، بل لفهمه وتفكيكه. ما هو موقفك من التراث؟ كيف يجب التعامل معه؟   
*لأكن صريحا ومباشرا في جوابي : لا احبذ، ولا استعمل لفظ التراث، الذي راج للغاية في الكتابة والثقافة العربية منذ عقود قليلة. وأستحسن الكلام، بالمقابل، واستعمل لفظ : الماضي بديلا عنه.
وسبب اعتراضي يعود إلى الوهم الماثل في الاستعمال، واكلاف هذا الوهم في الثقافة العربية. ذلك ان الحديث عن : التراث يعني ضمنا او علنا الوهم بان لنا ثقافة هي عينها منذ الجاهلية، ما يبيح بالتالي للمعاصرين من أبنائها الاتكال عليها، بل استثمارها مثل تركة او إرث.
الثقافة العربية ممتدة في تاريخها الذي عرفتْ فيه اطوارا متباينة، ما لا يُستحسن الخلط بينها. ويعود هذا الخلط الى وهنٍ في ثقافة المعاصرين، الى شعور بالقصور إزاء ثقافة الماضي، بل الى شعور بخيانة الثقافة القديمة ما يجعل التمسك بها مغفرة للذنوب.
ما تعايشه الثقافة العربية في طورها الحالي مختلف عما كانت عليه الثقافة في الجاهلية او في العصر العباسي او في عهود الإمارات والسلطنات الاسلامية... هذا يعني أننا لا نزال نفتقر الى منظور تاريخي في درس الماضي الثقافي باللغة العربية، ويجعلنا نخلط بين اطواره المختلفة. فما نكتبه اليوم في عمومه ومتفرقه لا صلة له باطوار الثقافة الماضية، بل ينطلق من أصول أوروبية تفاعلنا معها بتقطع واستسهال ونجاحات احيانا منذ مطالع القرن التاسع عشر.   
6. أنت من القلائل الذين كتبوا عن الفنون الإسلامية بعين معاصرة. كيف يمكن تقديم هذه الفنون اليوم لجمهور عالمي دون الوقوع في الاستشراق الجديد أو الفولكلور؟
* انصرافي لدرس الفن الاسلامي تأتى من لزوم ان يكون لهذا الفن كيانه المادي التاريخي، والخطاب المناسب في درسه. فقد استوقفني في درسي الجامعي والبحثي انه لم يكن لهذا الفن كيانه الكتابي والفكري في الثقافة القديمة، وان ما ندرسه ونُعلٌمه عن هذا الفن يعود في أساسه الى بناء مجموعاته في متاحف أوروبية وغربية، كما يعود الى خطاب لا يعدو كونه خطابا استشراقي التكوين.
مثال على ذلك : راج، في كتاب أدوار سعيد الشهير عن الاستشراق، نقد عمليات التخييل الزائف لما هو "الشرق" و"الشرقي". هكذا اتى نقد الاستشراق نقدا للخطاب ليس الا، اي يشتمل على نقد الصورة عن الآخر، فيما كان في الإمكان - وهو ما سعيت الى القيام به في نطاقي البحثي - استكشاف واستبيان العملية التاريخية الواسعة، المادية كما الخطابية، التي قامت على حيازة المواد الواسعة من الفن الاسلامي (وابعد منه في الحضارات القديمة)، وعلى تدبر خطاب في درسها ابتداء من عمليات التملك هذه.
حاولت في أكثر من كتاب وبحث ان اكشف عن هذه العملية الواسعة، التي اسميتها "غزو الماضي"،  وان اجد لهذا الفن ما يفسره في ثقافته واحتياجاته وتمثلاته.
7. عملت في الترجمة أيضًا، وكتبت عن الترجمة بصفتها فعلًا إبداعيًا. كيف تؤثر الترجمة في هوية النص الأصلي؟ ما الذي يربحه النص وما الذي يخسره؟  
* أحب الترجمة، استسيغها، يحلو لي القيام بها، اي التذوق في التجول في حدائق الغير، المعرفية كما الأدبية.
كما ان عمليات الترجمة تُعرِّضُ اللغة، كما الثقافة، والخيال، لامتحانات متشعبة، لا تتناول فقط قدرات المترجم وإنما تجعله قيد الانكشاف لذاته. لهذا، ولغير ذلك من الاسباب، اعتبر ان عملية الترجمة، بوصفها عملية نقل، عملية مستحيلة.
ذلك ان اللغات لا تتطابق ابدا، وإنما تترادف في جوانب منها. لهذا فان الخيانة، بالتالي، واحبة فيها. اما حاصل الترجمة فلا يعدو كونه الحاصل النصي، اي ما يمكن التوصل اليه.
يبقى أن أشير إلى أمر اخير، وهو أن الترجمة مهددة بالخسران مع قابليات الحاسوب والذكاء الاصطناعي التي باتت تتوكل بعمليات الترجمة، وهي آيلة كذلك الى تحسينات بالضرورة.
 
8. أخيرًا، ما المشروع أو السؤال الذي يشغلك الآن، وتشعر بأنه لم يُكتب بعد كما يجب؟
* من يدقق في ما كتبت من كتب وبحوث يتحقق من أنني اعمل ابتداء من ثقافة القرن التاسع عشر، سواء في ما انتجتْه، او في قامت عليه علاقاته مع الغير او مع الماضي. لهذا يمكن التحقق من انها مجالات نقدية وثقافية وتاريخية متلاقية بمعنى ما، ومتباينة، في آن. لهذا رسمُ هذه المجالات قام، والتفقد جارٍ فيها. اما ما احلم بكتابته فهو ما لا اعرفه، اذ يقع في هواء القصيدة العابر او القادم صوبي.
(الملحق الثقافي، جريدة "الصباح"، بغداد، 25-6-2025).