منذ أكثر من عام، وبالتحديد فى ٤ أغسطس ٢٠٢٠، انفجر مرفأ لبنان؛ ما أودى بحياة ٢١٨ شخصًا، وإصابة آلاف آخرين، ونقلت آنذاك وسائل البث المباشر مظاهر تلك الكارثة؛ كانت سُحب الدخان قد غطت سماء بيروت، وطالت الأضرار مبانى ومنازل فى أحياء مجاورة للمرفأ، وتجسدت الصدمة على الشاشات فى تعبيرات العويل والصراخ والبكاء والغضب أيضًا.
عمّ الحزن وتألم الجميع، وكانت أحزان الشاعر اللبنانى شربل داغر عميقة بقدر آلام النفوس، إذ رأى ما هو أبعد من الخسائر الظاهرة، كاشفًا عن كيف أن «قبل الموت بقليل يشبه الحياة قبل الموت بكثير»، يقول فى ذلك: «لم يكن مغيَّبًا فى جُبَّة، أو فى كمين محكَم، ذلك الموتُ المتطاير، الذى لا يزال يتطاير، فلا تخفت أصواته، بل تتعالى فى المدى الأخرق لسماء انتهت إلى أن تكون بطاقة ملونة لشاشة كبيرة».
وفى نصه الممتد «أيها الموت، يا جارى الأليف»، الذى يستهل به ديوانه الجديد «مَوَجان»، راح يتفاعل مع الأشلاء، يمد إليها يده، ويبثها مَوَجانه: «هذا الساعد الذى خرج مقطوعًا من الركام تحت نظر الكاميرات، أمسك بيدى، أعادنى إلى البيت الذى طار، إلى الأخبار والصور التى تآكلت فى عفونة الركام/ ركامٌ ينقِّب فى ركام، مفاتيح من دون شققها، أفعالٌ، استعاراتٌ، جُملٌ، تتعالى فى سماء بليدة/ كما لو أن العينَين تطالعان فيما تَرَيان أبجدية الغبار فى طفولة الدفاتر، وبريق الشغف فى عتمة المناظر».
تتحصن نصوص شربل داغر بالتذكُّر والاستحضار لتستقرى ما سيكون مما كان، و«ما كان قد تناثرَ فى رمل السماء اجتمع حبةً حبةً، كيسًا تلو كيس، فى صفقة الموت المؤجل، والأكيد»، يشتبك الشاعر مع الوقائع كاشفًا عما وراء التفاصيل، يجعل منها منافذ ألم مبثوث نلمس آثاره عبر مسارب متعددة؛ إذ يتذكره فى العودة إلى قريته، لكن ليس تذكُّر الحنين الغنائى، ويستحضره ليس ندبًا أو عويلًا، فعملية الكتابة لديه كما القراءة لدينا؛ ألمٌ يتماوج فيلف النفس كما لف الجسد بكامل أعضائه، فما تناثر هو اليد التى رسم بها فى طفولته ذلك العصفور المغرد فوق الشجرة، وما احترق هو الشجرة التى كان العصفور يعشش فيها فى فناء البيت، و«ما كان قد طار، حطَّ فوق طرف جملة/ ما كان قد تهاوى فى واديه، يتعالى مثل بالون مربوط فى طرف صورة تشدّ على ما جمَعَها/ ما كان، يكون بقدرةِ من يتحقق من الخسران، من الفقدان، مِمّا طُمر تحت الركام من دون نشيجه المتعالى فى سماء الغبار المنير».
وهكذا نلمس فى ديوان «مَوَجان»، الحافل بالكشوفات، عودة بلا ظل، تكون الكتابة فيها ثورة لا استنامة، وتكون القراءة متعة أو لذة يسكنها ألم مبثوث فى الثنايا كمرثية ممتدة ومتواصلة، نعيشها عبر مشاهد حركية تجعل من الوجدان ساحة مسرح، ومن أعضاء الجسد الإنسانى أبطالًا، حيث تحررهم من قيود المكان والزمان، وتحولهم إلى أثير نلمسه فى لغة طازجة حية وخاصة جدًا، متفجرة كالبركان، سيّالة فى جريانها كالنهر، «والنهرُ يتقدمُ، مثل الأرجل المتدافعة فى شارع المحاولة، إلى بحره من دون وزن، أو قافية»، إنها نصوص تشكلت عبر انفجار فنى موازٍ للسحابة بعد نقائها من الدخان، ورغم أن الدخان ما زال يتكاثر ويعلو فى سماء لبنان ويلونها بالسواد، إلا أن الشاعر يمدنا بالأمل، يقول: «أبيضُ قلبى لا حبر له، ولا بحر لقافيته، له نثرٌ يتشعب فى تهدّجات الصوت/ أبيضُ قلبى يفتح سطوره لسواد بيروت».
ولا أدرى هل كان الشاعر والروائى والكاتب شربل داغر، أستاذ الآداب العربية الحديثة وفلسفة تاريخ الفن، يتوقع وهو يُنضِّد نصوص «مَوَجان» قبل شهور من الآن ما سيشهده لبنان لاحقًا خصوصًا ما حدث فى «حى الطيّونة» يوم الخميس الدامى الموافق ١٤ أكتوبر ٢٠٢١؟، يقول «شربل»: «حفائر مبقورة، تنشرُ غسيلَها الوسخ فوق حبال ضوئية فى سطح النظر/ حفائر تُسدِّدُ لمستحقِّيها فواتير متأخرة الدفع، واجبة الدفع، عن الشقة والشارع، عن الساكن والماشى، عن كل ما خفى تحت سجادة الصالون، عن الثياب المستعارة فى خزانة الأيام، عمّا لا يغيب من دون أن يظهر، عما يدوم ويدوم من دون أن يلمع، عما يخبو مثل جمر فى رماد من دون أن ينقطع فى صرير العناصر».
وربما نلمس العديد من الشواهد فى ديوانه «مَوَجان»، المنتظر صدوره عن الهيئة المصرية للكتاب خلال أيام فى سلسلة «الإبداع العربى»، التى يرأس تحريرها الشاعر سمير درويش.