ما الذي يعنينا في السيرة الذاتية بالدرجة الأولى؟ هل حياة كاتبها، كما يسعى الكثيرون لملاحقتها، والتفتيش بين الأسطر عمّا تستّر عليه الكاتب، وتسقّط أخبار ماضيه وتجاربه بكل حمولاتها وكيف مشت وما انتهت إليه؟ أم ما يُفترض أن ما يعنينا هو السيرة كنصّ ينتمي إلى جنس أدبي محدّد؟
في كتابه الصادر حديثاً «الخروج من العائلة» عن دار «المتوسط»، الحائز على جائزة ابن بطوطة في دورتها التاسعة، لملم شربل داغر، صوراً مما استبقتْه الذاكرة خلال سيرورة حياته، محاولاً، بكل شفافية وأمانة، أن يعرضها باللغة والكلمات، فيها ما يكفي من صراحة، ومغامرة في دخول المناطق المقفلة اجتماعياً، وشديدة الخصوصيّة أحياناً أخرى، فيرفع هذه الشذرات من العتمة إلى النور، مواجهاً نفسه بما آل إليه في نص مشغول بلغة جميلة وأسلوب رشيق. فهو، إذا نحّينا الشعر جانباً لما له من خصوصيّة لديه، انصرف «إلى ما يعني العمومَ في خطاب مثقفيه والثقافة»، كما إلى ما يسمّيها «ثقافة العتبات»، في ثلاثة مشروعات تأليفيّة تبحث في التكوين المتأخر لهذه الثقافة، في تحديد «بدايات» القصيدة الحديثة، و«بدايات» الرواية العربية الحديثة، و«بدايات» اللوحة العربية الحديثة. أمّا الشعر، فهو «حديقته السرّية»، ويبقى على حدة «في حياة كتابيّة، تُتيح للمكنون، للفردي، لعالم الأحاسيس أن يخرج من ظُلمته إلى جلاء فاضح»، إلّا أنها، كما يصرّح، «تبقى سيرة غامضة، خافية، تشير إلى أحوالي، من دون أن تكون اعترافاً، أو بوحاً، أو استعادة لما جرى».
«صباح الخير من بيتي القروي»، بهذه العبارة الحميمة يستهل كتابه، ولو بدأنا بدخول عالمه من عتبته الأولى: العنوان، فإن الخروج من العائلة كان التوق الذي أضمره في نفسه منذ بداياته، لكنه لم يتحقّق فعلياً إلّا في مرحلة صيدا، الفترة الواقعة بين حدثين مهمّين، هزيمة يونيو (حزيران)، وموت جمال عبد الناصر، حيث كان في المرحلة الطلابية قد انخرط في الغيم الاجتماعي السائد إن صح القول، لكنه، باستعادة تلك الفترة يحاكمها بعد مسيرة الحياة الحافلة من دون أن يبخسها حقّها. وإذا عددنا الخروج من العائلة الفطام الحقيقي «الواعي» في حياة الإنسان، فيمكن وصفها بمرحلة إدراك «الأنا» وهي تتكوّن، أو تشبيهها بخروج اليرقة من شرنقة الحرير بادئة مسيرتها نحو اكتمالها، وفي لحظة ما قد يُطرح السؤال الأهم: ماذا أريد من الحياة؟ سؤال الحياة مربك أكثر من سؤال الموت.
«الغريب أنني حينما كنتُ أكتب هنا، كنت قلّما ألقي نظري إلى النافذة وما يقع خلفها وما يصل إليّ عبرها، فيما أصرف لها اليوم نظري وسمعي وهاتفي». عندما أوحت له قضبان النافذة، ربّما، بالسجن، أو ربّما بالخارج، انتبه إلى نفسه، إلى أولئك الآخرين الذين كأنهم تناوبوا على تكوينه إلى أن أصبح ما هو عليه هنا والآن. هذه عتبة مهمة لدخول هذه التجربة، حتى لو كانت الذاكرة خوّانة أو متواطئة أحياناً، لكنها تجربة غنية وكاشفة.
قد يكون اختار ما أملته عليه رغبته الخفية أو حسّه النقدي بما يخدم النصّ، فمن غير الممكن سرد كل ما يخطر في البال، «لعلّ الهواء أدرى، أو الرغبة الخافية... لعلني بتصرف غيري».
يفتتح زمن الكتابة من لحظة معيّنة إلى لا تعيين: «أضعُ صورة أمامي، مما تبقى، وأكتب ابتداءً منها. أو أتخيّل صورة، فأتعقّبُها، وأتبعُها، بخفة المتزلّج وأسرعَ منه»، أليس في هذا استدعاءٌ لخيال متخفٍّ بهيئة ذاكرة؟ إنه يبني عالما متخيًّلاً لكنّه حقيقي بقدر ما كان متحقّقاً، وعلاقته بالمكان، تستبطن مفهوماً فلسفياً خاصاً، ينضوي على جماليّاته: «أخالني أحياناً، أمضي في البيت، في حجارته، أستقصي فيه ما كانت عليه جذور لا أدركها، وفيها سيرتي الخافية»، فالمكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً، ذا أبعاد هندسية وحسب، بل بكل ما في الخيال من تميز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية، كما يحكي غاستون باشلار في «جماليّات المكان».
وإذا كان لدى شربل داغر، الشاعر، هذا النزوع نحو «زيارة قصائده»، مثلما لو أنه يريد التعرف إلى نفسه، فإنه واعٍ تماماً في يوميّاته، التي بين أيدينا، بهذا النزوع في محاولة البحث عن الآخر الذي هو «أناه»، «النكهة، الحساسيّة، التميّز»... بينما هو غيره، كما أرادوه، وقد عبّر عن ذلك تعبيراً صريحاً: «لا أجيد اقتفاء ما جرى، ولا استنطاق الغياب في الأثر، ولا إجراء محاورات مكفولة بين الصورة الماديّة والصورة المودَعة في الذاكرة.
ما يكفيني، ما يعنيني، هو ما تشيعه الصورة فيّ، أمامي، أو في خاطري، من مشاعر، ما دامت هي التي تجدل الأحداث والتعابير».
الخروج من العائلة نص أدبي ينوس بين الرواية واليوميّات، يبدأ زمن السرد فيه بلحظة جلوس الكاتب إلى مكتبه والتماع رغبة الكتابة من دون وجهة، «حيث أقتعد الجلسة ذاتها... من دون أن أعلم وجهة الكتابة التالية»، ويعود إليها بعد استرجاع تاريخ طويل حافل بالحكايات والشخصيات، والأحداث المتنوعة والأمكنة المتعالقة بها، يمسك خيوط السرد، يلاعب الزمان والمكان بأسلوب رشيق ولغة طريّة، لينهيها: «يبدو أن الحياة أحرقت وأتلفت الكثير من الصور، أو أن الحياة مضت وحدها من دون كاميرا... ألهذا تراني أتعجّل وأستكمل في الكتابة ما تبدّد منّي في العبور؟». ومثلما ابتدأ بالصورة، فإنه ينتهي بها، ربما في هذا الاشتباك بين مفهوم الصورة ومفهوم اللغة لديه، انبنت شخصيته الإبداعية، متعدّدة المشارب، غزيرة الإنتاج.
ينتهي الكتاب بصور بالأبيض والأسود، للعائلة وله في مراحل عمرية متتابعة، مع بعض الوثائق الحميمة، كأول كشف علامات مدرسي عندما كان متفوّقاً في الصفّ الأول، أو بطاقة والده كموظف في شركة الخطوط الحديدية، وغيرها.

 

 

(جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، 26 حزيران-يونيو 2022).