يتوقف د. مصطفى الكيلاني (تونس) لدرس شعري وشعر آخرين في كتابه الصادر حديثا عن "دار ديار للنشر والتوزيع" التونسية: "رحيل المعاني: الحداثة وإعادة كتابة الأصل/الأصول في الشعر العربي المعاصر: مقاربة تأويلية" (368 صفحة). وهو كتاب نقدي لافت من دارسٍ جمعَ بين النظر الفلسفي والنظر الشعري. في الكتاب التفاتة بحثية مزيدة من الكيلاني إلى شعري، بعد كتابه: "شربل داغر: الرغبة في القصيدة" (دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006)، وبعد دراسات أخرى له شملتني في كتابه النقدي: "مرايا العتمة: قصيدة النثر ومستقبل الشعر العربي" (دار نقوش عربية، تونس، 2009). ولقد وجدت مفيدًا نشر مقتطفات من هذه الدراسة:
"يرفض الشاعر (شربل داغر) جاهز الأسلوب. لذلك لا تستقرّ هذه النصوص على وتيرة واحدة. إلاّ أنّ التجريب، هُنَا، ليس غايَةً يُرادُ بها التجريب فحسب، بل هي أداة مشحونة بأسئلة الكيان، بَدْءًا من اللّغة ومرورًا بالذات المتكلّمة شعرا وسَفَرًا في أقاصي المعنى وإمكان التدليل أيضا باللاّ معنى.
"يتقدّمني طرف لساني
مثل مجذاف
يلعق
تَوقَ الوصول
كما في مضيق
وبين الضفّتيْن
جسدي رقّاص ساعةٍ تنقضِي
بهوس الجذّافين
وَهمْ يتناوبون على الماء".
مرجع الكتابة، إذا جازت العبارة، في عالم شربل داغر الشعريّ يتحدّد بالصورة. ولكنْ، أيّة صورة؟ أتلك الّتي بها تتمثّل الكلام، الصمت، المعنى، اللاّ معنى، كسالف الصُور في بدْء الوعي الكينونيّ للإنسان حينما نتمثّل بها الموت، كأن أعاد صياغته في عميق الكهوف، وتنامى شغفه بها مرورًا بالأصوات والحروف والألوان والنُحوت وإبداعات المخروط، ثم الطباعة واتّساع مجال الرسم والمشهد الّذي تحوّل من عارض التمثُّل الرُكحيّ إلى الصورة الضوئيّة بالسينما والتلفزيون والحاسوب؟ أليست الصورة، واحدةً متَعدّدة، هي الحضارة بكثافة الطيف في المؤتلِف والمختلف، كأنْ نذهب بِمُجمل التسمية أو مُطلقها إلى الفنّ؟
إنّ قارئ نصوص داغر الشعريّة يُدرك حقيقةً بدئيّة مفادها أنّ الشاعريّة هنا لا ينحصر وجودها في الشعر بل يتعدّاه إلى "الشعريّ"، هذا الّذي به تتكلَّمُ الفنون، كلّ الفنون، دون استثناء. لذلك ترتبك القراءة في حضرة النصّ الشعريّ بالمساءلة: كيف الدخول إلى عالم شربل داغر؟ هل من باب الشعر ذاته أم ماهيّة الشعر أم الفنّ بمُجمل قِيَمه ومراجعه الجماليّة أم مُجمل المعنى أم مشروعيّة الكتابة باللاّ-معنى، مُنجب كُلّ المعاني الحادثة والممكنة أم بالرغبة، الشهوة، النزوع التراجيدي الهازئ حينا والجادّ أحيانا إلى ممارسة لعبة الموت بالكتابة الّتي لا تعني الانحباس في المكتوب واللّغة، بل هي استقدام للفجوات الماثلة في ممكن النصّ، في الصمت الّذي به يتشكّل الكلام ويفيض بسيميائيّات أخرى تُقضي إلى مُتخيَّل الصوت والشكل واللون والحريّة ومجمل القوى الجسديّة حِسًّا وتخييلاً وحَدْسًا ؟
يُضحي الشعر إذنْ عند قراءة مجمل نصوص داغر الشعريّة تسميةً فضفاضةً مُخاتلة لأنّه أوسع مدى من أن ينحصر وجوده في القصيدة أو لاحق النصّ الشعريّ على امتداد تراكم تجربة القصيدة العربيّة المكتوبة "بالنثر"، بل هو النصّ المُفكّك بالقصد والمُعاد بناؤه بضرْبٍ خاصّ من "اللّعب الجادّ"، بانتزاع النَفَس الوهِن عن لغة الشعر وإعادة التوهّج إلى فعل المحْو والإنشاء، وبانتهاج سبيل كتابة الطيف العابر، آنَ استعادة بعضٍ من ذاكرة البدايات الأولى بعد استبداد ذاكرة الفرع الأبويّ بذلك الأصل الرَحِمِيّ.
كذا النصّ الشعريّ لدى شربل داغر تناصٌّ واسع لا ينحصر بناؤه في تقليب سيميائيّ ودلاليّ واحد، لأنّه يتوسّل بثقافة العَدَد أُنطلوجيّا وإناسيّا (أنتروبولوجيًّا) وفنيّا، نسبةً إلى مُتعدّد الفنون ومُختلِفها لما يُعالقُ ويُداخل بين الحرف والطيف، والأثر واللون، والمرئيّ واللاّ-مرئي بمنظومة تآلُف حادثة مختلفة في كتابة الشعر العربيّ بين الإشارة والأيقونة والرمز عند أداء الملفوظ الشعريّ.
ولطبوغرافيا (مواقعيّة) التجربة لدى شربل داغر بُعْدان يتعالقان آنَ البحث في مُجْمَلِ تشكّلات الكتابة: تراكُم التتابُع والإبطان (...).
فالتناوُل الزمنيّ هو المرادف التقريبيّ، هنا، لمفهوم تراكم التتابع، كأن تتحدّد سمات التجربة ومفاصلها الكبرى كالآتي: فمنذ "فُتات البياض" (المجموعة الشعريّة الأولى) يستبدّ الفراغ العدم البياض السلب باستواء المعنى المتداوَل وجاهزيّة الحرف المسْتَعمل ببدْء تحويل وُجهة الكتابة من التَمرْكز إلى التمدُّد، ومن التكثيف إلى التَبَدُّد سعيا إلى كتابة شعر مختلف مُستوحى من الصمت، الوجه الآخر للصوت.
وكأنّنا بهذا الديوان نشهد ميلاد الشاعر الوجوديّ بلغة الشعر تحديدا. وقد تزامن هذا الميلادُ وتفتُّح الجسد والذات على الأنوثة في الواقع والرمز، إذ تدبّ في الداخل حياةٌ جديدة تُفكّك المُتناظم الموروث وتدفعه بقسوة جميلة إلى مزيد من الانقسام (الفُتات) كي يُعاد إنشاء الذات بنواة متجدّدة وآفاق واسعَة لا تُحدُّ بدلالة مُسبقة أو حُكم جاهز. وبذا يُحدث شربل داغر مشروعا لإنشاءِ لُغَةٍ داخل اللّغة ليغمره فيض سحريّ مباغت يشي بالميلاد الوجوديّ المذكور:
"ماء ينبجس
خلسة،
يسردني على عجل
على مسامع أصابعها" (...).
وفي "تخت شرقيّ"، يواصل الشاعر هدْم بناء القصيدة التقليديّ، وذلك باعتماد خُطّة جديدة للكتابة تعتمد الحدس والصدفة والتجريب في ذات الحين، وتُقارب بين الجسد الكاتب والجسد المكتوب بتعالُق حميم يُعيد للّغة بعضا من وهج الصوت، وللصوت بعضا من نبض الجسد. وكأنّ الشاعر بهذه المجموعة الشعريّة الثانية يُغالب ثِقَلَ المعنى الشعريّ المُتقادِم الموصوف في الأساس بالإرث وليس بالتراث، وينشد "الخفّة" التي تتحرّر بها الروح الكاتبة من عديد الأثقال والأغلال والأحوال المتراكمة في ذاكرة الفرد الكاتِب، وذاكرة المجموعة الوطنيّة والقوميّة التي ينتمي إليها بحُكْم تاريخ السُلالة الأخصّ والأعمّ في ذات الحين، حتّى لكأنّ هذه المجموعة تشهد على توقُّفٍ أو ما يشبه التراجُع القصديّ الّذي يُراد به إثبات هويّة مّا لا تؤمن بالنواة الساكنة وواحديّة المرجع التراثيّ، بل هي الطفرة المباغتة في زمن المجموعة الأولى تزامنًا مع وعي ناشئ شبه عَدَميّ تستدعي في اللاّحق استرداد "وُجهة مَّا"، زَمَنًا أو رَمزًا قيميّا لزمن كان، وهو الماثل في طوايا النفس وخفاياها، الفاعل سرًّا وَجَهرًا في اللّغة الأخرى المنبعثة من ذات اللّغة الأمّ، بضربٍ من التبعيد بين الـ"هنا"، الـ"هناك"، بين الآن وذاك الزمن، بين "الأنا" والـ"هُم"، كمسرحيّة تُدار على مسرح الوجود:
"مُمثّلون فوق خشبتي
يتواجهون ويتجادلون، ويُمسِكون نُتفًا من حوار
وأنا، قابعا في العتمة،
أتسقّط السمع،
بخِلاف الملقّن
وأستردُّ ما فاتني من الليل" (...).
وفي "رشم" تشي الكتابة بما وراء الحرف، بالطيف المُفضي إلى ما هو أبعد من الكلمة ومنطق اللسان، إلى حيث التعالُق الحميم المُخْصِب بين الكلمة واللون، بين ثقافة الشعر وثقافة الرسم. وبذا يتّسع مجال سيمياء الكتابة الشعريّة بمُحصّل تُراث القصيدة وحادث تناصّ الفنون، وتحديدًا فنّ التشكيل، على وجه الخصوص. كما يتعالق مخيال اللّغة الحادثة بين بلاغة الاستعارة الشعريّة وإيحاء المُطابقة المُسْتقْدَم من عالم اللوحة الزيّتية.
وإذا ثقافة التعدُّد الفنّي تدفع التجريب إلى أبْعَد الأقاصي في حادث تجربة الكتابة، كأن تكتشف الذات الكاتبة بعضًا من ذاك المشترَك الماثل في جميع الفنون: "الشعريّ" بفائض الكينونة, والكينونة بفائض الشعريّ. لذلك يُغيّر شربل داغر الوجهة من مدار الهويّة إلى بدءٍ ما هو المرجع لكلّ الهويّات الفرديّة والجمعيّة، كأنْ نقول رغبة الموجود (Etant) أو "الواقع المطلق"، على حدّ عبارة نوفاليس (Novalis)، الّذي يستقدم إليه كُلّ "الاتجاهات" (...).
وفى "حاطب ليل" تستمرّ مغامرة الموجود المُنبعث من تحت أنقاض العادة وثقافة الفرع الذكوريّ المتمرِّد على أصله الأوّل باندفاع آخر، وبالتكرار أيضا. لأنّ الكتابة الشعريّة لدى شربل داغر ليست انفلاتا دائما من حالٍ كاتبة إلى أخرى، بل هي حيرة الأساليب أيضا والتردُّد اللاّ-إرادي أحيانا عديدة بين سالف القيمة الجماليّة والأخلاقيّة وممكن القيمة اللاّ-مُسمّاة المختلفة الّتي قد لا تعني بالضرورة، وكما أسلفنا، انفصال الفرع عن الأصل، والجزء عن الكُّل، والما-بعد عن الما-قبل. ومثلما تحرص الكتابة في "حاطب ليل" على وصف كِتابيّتها تُفكّك اللحظة عند حدوثها الطارئ الراهنيّ لإكسابها صفة التاريخ المُنفتِح على الأصل الأوّل بمُتعدّد دوالّه واختلاف مراجعه ووضعيّاته.
وكأنّنا بالمشترك القائم بين "رشم" و"حاطب ليل" نتمثّل إبْدَالا في مسارّ التجربة لدى شربل داغر يُمكن إجماله في تحوُّل وعي الكتابة من آثار الجسد المُعطى بثقل الإرْث الّذي لا يعني تُراثا فرديّا وجماعيّا وإنْ سعى إلى ابتسار هذا التراث والزجّ به في واحديّة المعنى,إلى الجسد-المشروع الّذي هو، بكتابة النصّ الشعريّ، إمْكان للفهم بِمُشترك فِعْليّة الإنشاء والقراءة، كأنْ يتّسع مجال الإنشاء بالحاسوب ويتأسّس على مقروء سالف. كما يستدعي إليه ذات / ذواتًا قارئة.
ولئنْ تحدَّدَ مسارّ الكتابة في سالف التجربة بما يُشبه العدم المحض، إذا جازت العبارة، فإنّ للعتمة (الليل)، هنا، دلالة العَدَم المسْكون "بطُمأنينة" حادثة لما طَرَأ على "السكن" من حادث المعنى، بالسفر إلى الداخل، وليس عبر المكان، بالتجوال في أقاصي الأمْكنة والأزْمنة دون مفارقة اللحظة (الآن) والموقع (الـ هُنا) ببصيرة الأعمى يشقّ "بعَصَاه" عتمة الضوْء في ليل حاسوبيّ آسر:
"بفجاجة ثمرة
ما إنْ يرنّ ألقها
فوق شاشة
أجوس بياضها
بِعصا الأعمى في أمكنة شاردة." (...).
وكأنّنا بـ"إعرابًا لشكْل" نشهد إبْدالاً مفاجئا آخر في مسارّ الكتابة، إذْ يتفاقم وعي الكارثة بمزيد من استبطان العتمة وانتهاج سبيل الرغبة في تصيُّد اللحضات الهاربة وتحويل وجهة الكيان من الانتظار داخل شرنقة الموقع إلى ممارسة لعبة أشدّ خَطَرًا وجِدّيّةً، تلك المُتمثّلة في تقليب وعي الموت بالكتابة. فثمّةَ نبض آخر يُشبه الصدى الّذي يشحن جسد النصّ الشعريّ برغبة الإفناء قبل الفناء. وبذا يتّسع مجال الرمز الفعليّ باليد عند الإصرار على مواصلة استخدام الحاسوب أو اللّواذ به، تحديدًا، ليتناظم مُثلّث الاقتدار على الكتابة بمدلولها الواسع، كأنْ يتعاضد الحرف والطيف والعلامة الضوئيّة في صياغة جامعة تصل الشعر بالرسم والكتابة الإلكترونيّة وتُؤالف بين ثقافة القلم والريشة و"الفأرة". وما الاشتغال على الحاسوب إلاّ بدافع توسيع أفُق العبارة الشعريّة. وبهذه الرؤيا ينتصر اللّعب الجادّ على الجِدّ الهازل، ومهرجان المشاهدة على الوجود المأتميّ، والبحث عن لحظةِ إسعاد على الانتظار السمج، والانشغال بالحركة على القلق، وممارسة فنون التحويل من شكل إلى آخر على صياغة الأشكال الثابتة. فيتحوّل زمن انتظار اللّحظة الأخيرة إلی زمن حادث يُغالب قلق النهاية بـ"سعادة" مُفاجئة تُنشئها الذات الكاتبة قريبا من العدم المتربّص بالموجود أينما اتّجه وأيْنَمَا حَلّ، وبحريّةِ من ألِفِ أقسى الأغلال وأشدّها على الروح، وبالغيريّة تنفتح بها سماء الأنا كتابًا يُمْطِر حروفًا ومعاني وألغازًا جميلة:
"هو أنا، أنا هو: يبقى في جواري
غيري هو أنا، أنا هو غيري: يبقى في جواي.
أنا من دون القصيدة، هو من دون القصيدة: يبقى في جواري
هي: هو وأنا،
هو: هي وأنا،
أنا: هو وهي: يبقى في جِوَاري" (...).
وفي "لا تبحث عن المعنى لعلّة يلقاك" لا يمتلك الشاعر من الاتّجاهات سوى مزيد التوغُّل في العتمة والاستمرار في مغامرة إعادة إنشاء المعنى الشعريّ أو تفكيكه بحادث الأشكال واتّساع أفُق الاستدلال بالصمت، بالسلب، باللاّمعنى. لذلك يشهد مسارّ التجربة الانتقال شبه الواعي من رغبة الكتابة إلى كتابة الرغبة لنُقارب همس الكارثة في منظومة نصّ مُترجرِج دلاَلَةً وإمكانًا للدلالة بين "ثقل الواقع" و"خفّة الحلم". فيتنازعنا في الأثناء ذلك "الثقل" وتلك "الخفّة" بنبوءَةٍ شعريّة تستبق الفاجعة وتستقرئ صُوَر الدمار والجُثث والدسائس الّتي ستحلّ بلبنان في صيف قادم سرعان ما استحال إلى "واقع مُشاهَدِ" وقد كان "واقعا بالشعر".
كذا تلتقي في هذا الطور نبوءة الشاعر وحدْس الكتابة بتَعالُق اللحظة، بمجمل خبرة الماضي، ومختلف إمكانات الاستباق كي تتنامى في الأثناء زمنيّة الوعي الكينونيّ المختلف، قريبا في المدلول من وعي "الواقع المطلق "النوفاليسيّ حينما تتجمّع في آن المكتوب أطياف ماضي الكارثة وآثار الجرح القديم الدامي المُستعاد، ويتهّدد الوطن (لبنان) شبح الجثّة يُسْتباح تمزيقها باسم الفرادنيّة المقيتة أو الطائفيّة الغادرة كي يحتجب في الأثناء حُلم الشجرة وينحبس المعنى لتَعَطُّل الإرادة واستبداد الخواء العدم الكارثة بالحياة والصورة والحركة (...):
وإذا "لا تبحث عن المعنى لعلّه يلقاك" أشبه ما يكون ببوّابة الشعر الحادثة على فنّ آخر حينما يُسفر نصّ "العباقرة يصلون سريعًا..ـ والحمقى أيضًا" عن لون المَسْرَحة، مَسْرَحةِ الكارثة بترسيخ نبوءة الشعر، بالحوار المُمْكن في زمن استحالتِه أو تعثُّره، وبتواصُل الضمائر المتحاوِرة مَسْرَحًا في سياق يتعسّر فيه التواصُل رغم وفرة وسائل الاتّصال. لقد أدركت الذات الشاعرة مدى الحاجة إلى مُتعدِّد "الأصوات" للتدليل على الكارثة الحادثة، وإن اتّخذ هذا التعدُّد له صفة تغايُر النبرات أو اختلاف الأصداء لصرخة واحِدة، إذِ الحادث في راهنيّة النصّ الشعريّ المُمَسرح كتابةً أو القابل للمسرحة إنجازًا هو ما لم يحدث بَعْدُ أو قد يحدث بل سيحدثُ، إنْ فتحنا بنية هذا النصّ على القادم من الوقائع آنَ الوَصل بين الزمن الشعريّ والزمن التاريخيّ:
"ما يجري هو ما يجري الآن" (...).
هو البياض (فتات البياض) يُنشئ بَدْء الرغبة (شهيّة الكلام الشعريّ)، أو فَلْنَقُلْ: هي اللّغة الشعريّة تُسفر بَدْءًا عن ما وراء للّغة يتّسع مجاله ويتعمّق بالرسم والحاسوب، وبفتْح حوار الذات مع ذاتها على متعدّد الضمائر بمسْرحة الوجود الفرديّ والجماعيّ، ليبتدئ بذلك شربل داغر طوْرًا آخر في الكتابة، "بشهيّة" من تملَّكَه عشق الكتابة المُمَسْرَحة شعْرًا، هذا الّذي يدفعنا إلى انتظار جديدٍ آخر مختلف في مستقبل الكتابة القريب.
وبهذا النسق من التراكم والإبدال ينكشف ما يُشبه الثوابت التيّ بها يمكن تمثُل خصوصيّة تجربة الكتابة الشعريّة لدى شربل داغر، كالآتي:
إنّ قارئ مجمل هذه التجربة، منذ "فُتات البياض" إلى "لا تبحث عن المعنى لعله يلقاك" يُلاحظ ثابت الغيْريّة قائما في مختلف النصوص، قريبا من مفهوم صلة الأنا والأنت بالمنظور التواصُليّ لمارتن بورر (MARTIN BURER)، إذ الغير، هنا، هو في صميم الذات، بل إنّ الذات لا تقدر على التكلّم إلاّ بواسطة هذا الغير ومن أجله. فإذَا استحال الغيْر كانت البُهمة الوحشة استفحال الكارثة نضوب الرغبة توقُّف كُلّ شيء الانصدام التبدّد التلاشي الكامل.
فقد يكون الغير صدى الذات أيضا ومُجمل رموز الذهن المُتكلّم، وهو أيضًا مُحَصّل ثقافة التراث والحداثة وما بعد الحداثة، بني الإنسان، وهو الواحد المُتعدّد الّذي لا يمكن نفي تعدُّده، كالذات الشاعرة رغم النواة الّتي تُحدّ بها في البدء والمرجع وحسب التقريب.
فالسلب (Négativité)، هو الإمكان الوحيد الّذي يُبدّد به الشاعر كثافة الوثوق المُخادِع. لذلك تنزع تجربة الموجود الكاتب إلى التجريب بمُتعدّد الأساليب وواسع التناصّ. كما يتجاوز الملفوظ الشعريّ جاهز النصّيّة إلى كتابة مُنفتحة تحوّلت تدريجًا من النصّ الشعريّ المختصر إلى النصّ المُطوّل بالتكرار والدوران والتمدُّد وتوالُد الصُور المزحومة بالحالات والمواقف.
لقد أدركت الذات الشاعرة عجز اللّغة المُتكلّمة لِوَحدها عن أداء القصد الشعريّ. لذلك نراها ترفض الالتزام بسالف الاتّفاق التداوليّ اللّسانيّ ضمن بيان اللّغة وبلاغة الشعر لتبحث لها عن آفاقٍ دالّةٍ أخرى.
ولئن تعاظمت شهوة الكتابة بآخر المجموعات الشعريّة المذكورة تزامُنًا مع استفحال وعي الكارثة فإنّ تَمَوْقُع الذات الكاتبة في محيطها المكانيّ الوطنيّ والإقليميّ والعالميّ يدفعها إلى أن تشهد حالاً تراجيديّة أعنف من مُجمل حالاتها السابقة، إذ تعصف بها في الداخل ريح التردُّد العنيف بين إرادة الموت ورعب الهلاك، كأنْ يخترقها زمنان: اللّحظة الواقع راهن الكارثة في اتجاهٍ و"الواقع المُطلق"، بلغة نوفاليس تقريبًا، في الاتّجاه الآخر.
فكيف لشربل داغر، في هذا الظرف الإشكاليّ العصيب، أن يُغالب حال التردّد المذكور: هل بتغليب الزمن الثاني على الزمن الأوّل عند كتابة ما يحدث بالرجوع إلى مجال اللّغة المُتداولَة أصْلاً ومرجعًا وكتابة التفاصيل بضروبٍ شتّى من التناصّ الحادث المختلف وإنشاء استعارات أخرى جديدة في الأثناء أم باستعادة وهَج الزمن الأوّل دون الانفصال عن اللّحظة الكاتبة وسياقها الحافّ، وذلك بإحالة لغة الشعر على الماـ قبل، تلك الصورة الجنائزيّة الصادمة الدامية المُتجلْبِبة بالسَواد المزحومة بحنين البدايات والنهايات مَعًا، تلك الّتي هي بمثابة الرحم الماثل صداه في لغة الشعر ذاتها، وبها كان التكلّم، الصورة الوالدة (matrice) الّتي لا تعني لشربل داغر ذلك العتيق المتقادم، بل ما يمثّله صداه في آنيّة اللّغة وراهنيّة التكلُّم، صورة ما كان ويكون وهو الآيل حتما إلى الانقضاء، صورة "الطيف العابر"، على حدّ عبارة الشاعر، الّذي يمتلك رغم قلق النهاية المحتومة المؤجّلة وعجز اللّغة ذاتها إرادة من يرغب أو يحمل في الصميم شهوة التكلُّم في الشعر وبالشعر، على غرار ما تردّد قوله على لسان محمد بن سيف الدين بن أُديْمر البَغْدادي في نصّ داغر المخطوط الموسوم بـ" وَجْهًا لِوجه" أو "وصيّة هابيل": "لا تنظر إلى من قال وانظر إلى مَا قال" تغليبًا لمخصوص الفرد على مطلق الفرديّة، وماهيّة المُسمّى على جاهزيّة الاسم، باعتبار القائل طيْفًا عابرًا، والقول هو الأثر؟".