للشاعر والباحث الأكاديمي شربل داغر ما يربو على السبعين كتابًا، بين شعر ورواية وترجمة ونقد وكتب بحثية أو درسية، وهو إذ يقدّم نفسه على صفحته في فيسبوك: شاعر، وروائي، ومترجم، وباحث في الأدبيات وجماليات الفنون، يمكننا أن نتلمّس ونفهم منجزه الإبداعي المتعدد والثري. وعندما يكتب فإنه يُخلص للنوع الذي يكتبه، أمّا ما يميّز كتاباته البحثية أو الدرسية بشكل عام، عدا التوثيق الدقيق والأمانة في استثمار المعلومة، فهو تحلّيه بصبر الباحث وموضوعية الدارس ومنهجيّته الرصينة، الحيويّة في الوقت عينه، فكتاباته البحثية تمتلك أسلوبًا سلسًا وترتيبًا في العرض يسهّل على القارئ تناول كتبه، إذ عادة ما تكون الكتب من هذا النوع جامدة بعض الشيء وأحيانًا جامدة بشدة، ما يؤثّر بدرجات متفاوتة على عملية القراءة. حتى في أعماله الروائية التي استطاع إلى حدّ كبير حمايتها من الشعرية، وهو الشاعر الذي بنى تجربته الخاصّة جدًّا، واجترح لها لغتها الخاصة، فإن الوثيقة حاضرة في كل أعماله الروائية.

 

أسباب العنف حول الصورة

أمّا كتابه الجديد، الصادر حديثًا عن المركز الثقافي العربي "بين الفقه والفن، النزاع على الصورة"، فإنه ينغمس في القضية التي شغلت العديد من مؤلفاته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "مذاهب الحُسن: قراءة معجميةـ تاريخية للفنون في العربية"، "الفن الإسلامي في المصادر العربية: صناعة الزينة والجمال"، "اللوحة العربية بين سياق وأفق"، "الفن والشرق: الملكيّة والمعنى والتداول، صدر في جزءين". وغيرها.

في كتابه هذا "النزاع على الصورة" ينطلق من قضية راهنة، شكّلت فيها الصورة علامة لصراع مكشوف، دموي، في غير مدينة أوروبية وعربية وإسلامية، بحسب ما يقول في المقدمة، وما شهده العالم مجتمعًا في السنوات الأخيرة من أشكال هذا الصراع، ما جعل الباحث يدرس هذه القضية، معتبرًا أن الدرس لم يتبيّن، في المنتج الإنساني إلى الآن، في صورة وافية ومناسبة أسباب اندلاع هذا العنف وهل له علاقة بمجرّد تصوير الرسول، أم بالسخريّة منه؟، طارحًا قائمة من الأسئلة التي ستشكّل عماد بحثه، لتبيّن ما وراء هذا العنف، منطلقًا من الفن تحديدًا، كون الصورة جزء من هذا المنجز الإنساني القديم "أيكون الفن بتصرّف الفنّان وتعبيرًا عن حقّه في التمثّل والتعبير، أم يكون الفنّ تحت نظر الجماعة، بل بتصرّف الجهة أو الجماعة الغالبة (أو التي تسعى إلى الغلبة) في تحديد عقيدة الجماعة وصورة هويّتها؟ أتتعيّن أسباب هذا العنف في نطاق الفنّ وأحكامه أم في نطاق أوسع منه، لكنه يتّخذ من الصورة تعبيرًا مكثّفًا ومختزلًا عنه؟ ألا يكون تناقل الصورة ـوهو أيضًا تناقل وسائل الإعلام الإلكتروني المسرّع لها ـ سببًا لتناقل الصراع على عجل؟

انطلاقًا من هذه الأسئلة يطرح تكهّنات على شكل أسئلة أيضًا، يحاول أن يجيب عليها في الكتاب من خلال اعتماده المنهج التاريخي، ملزمًا الكتاب بعدد من "المحدّدات المنهجية: منها إقامة البحث في حدود دينية وجغرافية وتاريخية"، يستقصي سيرة الصورة والفن عمومًا في محاولة لإقامة "أسباب تأليفيّة بين الفقه والفن، من جهة، والفقه وتاريخ الفن وفلسفته، من جهة ثانية" باستعراض المدوّنة الفقهية وفق منظور تاريخي، ودرس صلة هذه المدوّنة بالفن نفسه، ولا سيما فن الصورة "إنتاجًا، واقتناءً، واستعمالًا، واعتقادًا".

ميدان البحث هو المغرب، يشرح أسباب اختيار بحثه هذه البقعة الجغرافية بأسباب منها نأيها عن الخلافة العثمانية، وتحقّقه من وجود مدوّنة مغربية فقهية مناسبة للدرس المقصود، ثم إن وقوعه على ملاحظة هامّة ولافتة، أنّ الحقبة بين سقوط غرناطة 1492، ومطالع القرن العشرين، شكّلت فيها الصورة الفنية وغير الفنيّة علامة "قتالية" في الحرب التي أطلق عليها تسمية "شاملة" بين المغرب والدول الأوروبية. لكن هذا لم يمنعه من معاينة حال الصورة في مجتمعات عربية أخرى في العقود المتأخرة، سواء في الخطاب الفقهي، أو في تجارب الفن نفسها، ولا سيما في بُلدان الخليج، كما يقول، وهذا سوف يطرحه كمشروع درسي مطلوب في المستقبل في خاتمة الكتاب.

 

وفرة فتاوى الصورة

يتألف الكتاب من 271 صفحة، موزعًا بين مقدمة وخاتمة، يتخلّلهما ثمانية فصول، لكل فصل عنوان، وهو يضع بداية ملاحظة غاية في الأهمية، عندما يستهل الفصل الأوّل المعنون "بين الفقيه والسلطان" بالإشارة إلى كتاب "الصورة في العالم العربي" لمُعدّيه: جيلبير بوجيه وجان-فرانسوا كليمان، والذي يعتبران فيه أن مآل الصورة اختلف في العالم العربي بين ما كان عليه في العهود الإسلامية، وما صار عليه ابتداءً من القرن التاسع عشر، ويؤكّدان حصول تباين في هذه الفترة بين "إنتاج" الصورة و"استهلاكها" في هذه المجتمعات، إذ يعتبر أن هذا الرأي يعكس موقفًا متأصّلًا، قديمًا في الخطاب الاستشراقي من العالم العربي، القائم على التفسير في الفهم على حساب النظر التاريخي، ولا سيما في إنتاجيه، الأدبي والفنّي، طالما يجمعان بشكل تلقائي وطبيعي بين حقبتين تاريخيتين، كما إن هناك مغالطة أو ما سمّاها "فضيحة معرفية" في كلامه حول الصورة الإسلامية، بما أنّ الخطاب الدارس لم يتوصّل إلى فهم غياب الصورة الإسلامية،  ولا إلى فهم ظهورها "الانفجاري" في القرن العشرين، معتبرًا أن مردّ ذلك هو الفراغ شبه التام للفتاوى، وللاستشارات الفقهية. فالفقهاء كانوا صامتين إزاء ثورة الصور، كما قال معدّا الكتاب. بينما كشف كتاب شربل داغر في أثناء إنجاز بحثه عشرات الفتاوى لغير فقيه وفي غير مجتمع وفي أكثر من قرن، وهذا ما سوف يرافقنا على طول الكتاب، وسوف نرى أيضًا ثبتَ المصادر والمراجع في آخر الكتاب تشغل أربع عشرة صفحة، بين مصادر الدراسة، والمراجع العربية، والدوريات العربية والندوات والمؤتمرات والمراجع الأجنبية، وغالبيتها إما كتب فقهية أو دراسات وبحوث حولها.

لا يمكن تلخيص الكتاب، بل من المفيد قراءته، ولقد اتبع الباحث أسلوبًا درسيًّا منظّمًا وسلسًا وممتعًا، جعل من التاريخ مادة قصصية شيّقة، قدّم فيه المشكلة أو القضية بطريقة تفتح الفكر على فضاءات وتقود القارئ إلى عتباتها المهمة والشارحة، وإذ يبدأ بما يُسمّى "أدب النوازل" في المغرب، فإنه يجعلنا دائمًا منتبهين لموضوع التحوّلات التي تصيب المجتمعات، والتغيرات التي تطرأ على حياتهم من كل النواحي، السياسية والاقتصادية والاختلاط، وفي العصر الراهن العولمة، وما دور الفقيه فيها، مع تتبع تطور دوره واتساع مجال اشتغاله، وأسباب أو دوافع اشتغاله، ما يمكن تسميته العلاقة بين الفقه والتاريخ، إلى أن وصل الفقه لأن يكون أكبر النواظم في ضبط الحياة في المجتمعات الإسلامية.

أمّا أدب النوازل، في المغرب، فهو مجموعة من النصوص تجتمع فقهيًّا تحت مسمّى: النوازل الفقهية، وهي انشغال الفقهاء بمعالجة مسألة مطروحة بين الناس وواجبهم تجاهها والتفكير فيها وإصدار الأحكام في الوقائع الجزئية، "أي مشكلة عقائدية أو أخلاقية أو ذوقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلًّا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية"، وبناء على هذه القاعدة فإنه يمكن دراسة التحولات التي طرأت على المجتمع المغربي منذ سقوط غرناطة، و"اللحظة الأندلسية: انقلاب الأحوال" التي أدت إلى نوع جديد من العلاقات التاريخية بين المغرب والبلاد الأوروبية، إلى المرحلة قبل الحماية الأوروبية له ثم الاستقلال، وتطور دور الفقهاء واتساع دائرة تأثيرهم وسطوتهم، وعلاقتهم بالحكم والـ "المخزن"، وفي التصدي للتبعية الأوروبية والحرب "الشاملة" كما وصفها الباحث، بما كان لدى تلك الدول من نزوع نحو احتلال الجغرافيا والفضاء الإنساني، ثم تحوّل الحياة والانفتاح على الحداثة التي كان لا بدّ منها، وموقف الفقهاء من ذلك، فكان كل جديد يطرأ أو يدخل الحياة يستدرج سجالًا فقهيًّا حوله.

يشير الكتاب منذ البداية إلى أن المذهب المالكي هو السائد في المغرب، لكن هذا لم يمنع الدرس من إلقاء النظر والمقابلة بين المذاهب الأخرى، الأربعة السنية، والشيعية، من الانفتاح أحيانًا على المساهمات الفقهية في أكثر من بلد عربي وإسلامي. وفي كل الأحوال لم يسعَ الباحث إلى "إسقاط النظر" الدراسي المتأخر على الوضع التاريخي، موضوع الدرس، الصورة، وإنما قام بتناول الموضوع وفق منظور الخطاب الفقهي في حينه، أي محاولة الفهم التاريخي للمسألة.

 

هل نهى الفقه تصوير الرسول؟

ومثلما انبنت الدراسة على أسئلة مكثفة وموجّهة في المقدمة، أودت إلى احتمالات على شكل أسئلة أيضًا، منها: هل نهى الفقه الإسلامي عن تصوير الرسول تحديدًا، أم عن مجرّد التصوير؟ وهل أجمعت المذاهب الإسلامية ـ على اختلافاتها العقيدية ـ أم اختلفت في الموقف من الصورة، ولا سيما الفنية منها؟ هل هناك فروق بين مواقف الفقهاء، من جهة، وممارسات الفنانين أنفسهم في هذه الثقافة أو تلك، من جهة ثانية؟ مع هذه الأسئلة يمسك الباحث بيد القارئ في نهاية بحثه ويرجعه إليها، مع طرح أسئلة مزيدة، بعد رحلة البحث في الصورة والفن والمدونة الفقهية ومدونة الرحلة، ليسأل: أهو الفن، والاختلاف في الموقف منه، بين عربي وغربي، ما يفسّر العنف بين الجانبين؟ ألا تكون المواقف من تصوير الرسول، ومن الصورة الفنية، ذريعة لمناوشات ذات دوافع أخرى، خصوصًا عند مفتعليها؟ ألا "يستعمل" المبادرون إلى إشعال هذا العنف، الدين والرسول والصورة وغيرها، لكي يتمكنوا من التسيّد على جماعاتهم في بيئاتهم نفسها، وحيثما تواجدت؟ ألا يكون للعولمة الظافرة ضغط متفاقم، أينما كان، على الحدود وعلاماتها، بما فيها حدود الكيانات والاعتقادات والمواقف وعلاماتها "الحضارية" والثقافية والفنية؟ ألا يؤدي هذا الضغط المتفاقم إلى استثارة مواقف "ضديّة" و"بائسة" و"يائسة"؟ أسئلة كثيرة يطرحها الباحث، كما لو أنه خرج من مهمته الدرسية وتحوّل إلى قارئ لكتابه، وهذه نقطة تُحسب له أيضًا، فلقد وجّه أسئلة القارئ المحتملة إلى مقصدها، أما بالنسبة لقراءتي هذه الكتاب الغني والممتع، فلا بد أن تحضرني أسئلة مضافة، تثيرها الملاحظة التي أوردها الكاتب في فقرة: الصورة وفق قيم حالية، "إن الكلام عن الصورة حاليًّا ينقل أو يعكس بالأحرى قيمًا حالية ويُسقطها على تاريخ قديم في الصورة، لا يناسبه بل يحوّره تمامًا، سواء في المجتمعات الإسلامية أو العربية أو في المجتمعات الغربية، فما يُقال عن أحقية الصورة في رسم ما تشاء، وأحقية الفنان في رسم ما يشاء وكيفما يشاء، إعلان لحق، أو لحقوق متأخرة، لا تعدو كونها التعبير المتأخر عن احتكام الصورة والفن لتداول باتت فيه اللوحة وغيرها قيمة شديدة الاستثمار والرسملة، وما يُقال عن "الهزء بالرسول" أو التعرض لنبوته، لا يعدو كونه، في جانب منه، طلبَ التحكم من نخب وجماعات تتوخّى فرض قوتها على غيرها من المسلمين بدعوى أنها "الأشد حفظًا" للرسول ودعوته. وإذ يعتبر أن دور الفقيه في المجتمعات العربية المعاصرة ومكانته قد تراجعت، فإن الواقع الراهن، خاصة في العقد الأخير، أو ما سمي بالربيع العربي، فإن الواقع يشير إلى ازدهار مكانة الفقيه مرة أخرى بعد تراجعها، وأن المجتمعات العربية والإسلامية باتت على مسافة تطول باضطراد من الحياة المعاصرة، وصار مطلوبًا بقوة في هذه المرحلة تبديد الغربة التي يعيشها العرب والمسلمون عن الحداثة السياسية والعلمية والثقافية، وذلك بإعادة طرح الأسئلة النقدية بجرأة وعدم تأجيلها بعد الآن، والاشتغال على كيفية  إخراج الإسلام من الصورة النمطية التي صار العالم لا يراه إلّا من خلالها، بوصفه مولّدًا للعنف والإرهاب ومنتجًا للتطرّف، كي يتحوّل إلى شريك قادر على صياغة القيم المتعلقة بالمصير الإنساني، وإفراغ العالم من حجته وإقناعه بأن هذه الشعوب قادرة على إنتاج أدوات للسلم وازدهار الإنسانية وليس للحرب.

(موقع "ضفة ثالثة"، 16 كانون الأول-ديسمبر 2021).