أحتفظُ بصورة قديمة عن علاقتي بالقصيدة : قريبةُ لعائلتي أفادتْ أمي، ذات صيف، في القرية، بأنني "أخوت"، أي : مجنون عقلي، أو أحمق. قالت لها ذلك إذ تنبهتْ، عند مروري أمام بيتهم، وهي في داخل البيت، إلى صوتي يتلعثم بكلمات غير مفهومة. أمي غضبتْ من كلامها، إذ كانت تجدني متفوقًا في مدرستي، ولستُ بالجنون الذي تتحدث عنه قريبتُنا.

هذا المشهد الطفولي بات له معنى لاحق في حياتي، في سيرتي، في سنوات المراهقة، في بيروت هذه المرة، في شارع غير بعيد عن المكان الذي نلتقي فيه : وجدتُني أخرج من البيت مدفوعًا بما كان يضغط على صدري من دون أن يتيحه كلامي بعد. وجدتُني، ما إن تهاوت دعساتي فوق بلاط الرصيف، أتفوه  بما لا أعرفه، بما يتصاعد من حلقي من دون أن أتبينه.

كان تدافعًا صوتيًّا أكثر منه كلامًا أكيد التشكل. أصواتً متدافعة، تتملكني كما لو أن صدري ممرُّ عبور لمتسللين سريين. أأكونُ في قبضة وسواس، "وسواس خنَّاس"، كما قرأتُ بعد ذلك ؟

ما تعني هذه الحاجة المباغتة إلى التلفظ ؟ من أين تتأتى ؟ ألا تكون ممكنةً إلا بالخروج من البيت، بعيدًا عن الأهل ؟ ألا تجد الأصوات فرصتها إلا بملامسة الهواء، بالتواجد في ما هو أقرب إلى خلاء ؟ ما تكون هذه الرغبة في لقاء لا أحد ؟ أكنتُ وحدي فعلًا، من دون غيري فعلًا ؟

 

لو أتفكر في ما كتبتُ منذ تلك اللحظات البعيدة، لوجدتُ أن علاقة الصوت بالكتابة مربكة، ومعقدة. لوجدتُ أن الحديث أنسب عن تفجر متلعثم، عن طلبِ خروجٍ لاستعادة سكينة مبدَّدَة. سأكتفي، الليلة، بالحديث عن الصوت والقصيدة. بل سأستعيد هذه الجملة وأقول : سأكتفي بالحديث عن العلاقات بين الصوت والقصيدة... عِبْري. 

كيف لا، وقد كتبتْ في النص الأول في مجموعتي الشعرية : "القصيدة لمن أشتهيها" : "أيها الصوت، دعني أكون". 

لطالما تساءلتُ عن الصوت الذي شغلني، الذي يسبقني، من دون أن يعني، في ظني، أنه صوت مخبوء، أو ينتظر خروجَه مثل رياضي قيد الإحماء. لطالما تهتُ في سؤالي، وانسقتُ إلى القول إنه ليس بصوت، بل هو تهدجات ذات انفعالات مختلفة.

ليس صوتًا مثلما يستعد ممثلٌ للتلفظ فوق خشبة. ليس ممَّا يَنتظر في العتمة، ويترصد لحظة خروجه تحت الضوء وإلى العلانية. 

انتبهتُ، في مرات، أنه يأتي مع أصحاب أحيانًا :  يأتي مع من سبق أن عَبرَ أمامي في غفلة مني؛ مع من تبينتُ ابتسامتها في منعطف طريق؛ مع من تخيلتُ تنورتها تتراقص معي، بل معها، أمام مرآة وحشتها...  

يأتي مثل لعمان برق. مثل فتحة متاحة في حلكة لفظ. 

هو أضيق من لفظ، مثل تمتمة متدافعة، متدفقة، من دون لغة بعينها. 

هو أبعد من صوت، إذ يتدافع مثل تتابع لقطة أو لحظة؛ مثل لحظات في هواء. لحظات مبسوطة أو منكمشة. ممَّا يتردد في موسقة متنوعة من دون أن تكون نظامية. ممَّا ينبني وفق بداية جملة، وفق ميل تعبيري في انحناءات كلام. 


هي أصواتي. ما ينبني وينتظم أو يتلاشى مثل فقاعة. 

هو نَفَسي بالأحرى. ما يتشكل في ألفاظ، في جُمل. ما يتجول في غبشٍ لا علاقة له بضعف نظري. 

هي أصواتي التي "تتناهبني"، كما كتبتُ قبل سنوات. 

مع ذلك، لست ممسوسًا، ولا مأخوذًا، أو مخطوفًا. 

الأكيد هو أنني أكون، في هذه الحال، غائبًا، فيما أكون، واقعًا، في لجة الحضور. 

هذا ليس عملًا بريئًا بالضرورة، ولا فطريًّا مؤكدًا. هو ما أريده لقصيدتي : ألا يكون لها "خريطة طريق"، كما يُقال؛ أن تكون ضد الخدمة، ضد الوظيفة؛ ألا تلبي مقتضيات سارية؛ أن تكون وحسب في خدمة نفسها، وبنائها؛ أن تكون أبعد ما يمكن أن تكون عليه حريتي، أكثر إنصاتًا لأصواتي؛ أن تكون مزيدًا في الحياة، في اللذة، في الانعتاق، في استباقِ وتدافعِ الغامض الذي يتلجلج فوق لساني. 

فالشعر - كما تعلمتُ من كنط، ومن إيقاعات جسدي قبل كتابه - هو "ما لا يَعِدُ بشيء"؛ وأنه الأشد تطلبًا مع نفسه من دون إلزامات؛ وأنه الأشد تفلتًا، الأكثر تناغمًا مع ما أتقدمُ صوبه ولا أقصده بالضرورة . 


من السهل القول : القصائد كثيرة، والشعر قليل. 

من السهل القول : كُتبُ الشعر تقتاتُ من جِلدها.

من السهل القول : القصائد هي لدورة الشعراء، وحدهم، لا لقراء. 

الأنسب، والأصعب، هو أن نتحقق من أن الإقبال عربيًّا على كتابة الشعر لا يزال يجذب كثيرات وكثيرين، وهو ما لا نلقاه بهذا التدافع والحماس في غير هذه البلاد. 

أيكون بريق الشعر القديم، منذ امرئ القيس "الشريد"، يُغري ويُغوي مَن يَجدون في كتابة القصيدة متنفسًا لهم، من دون تكليف أو كلفة ؟ 

بات الشعر ملكية عامة، مشاعًا، والقصيدة فسحةً فردية، ورسالة تحت وسادة خالية، ومنشورًا بدنيًّا فوق جدار إلكتروني... 

مع ذلك يتوجب إثارة السؤال : ألا تزال هناك حاجة للشعر؟ هذا السؤال يتوجه إلى الجمهور، إلى المجتمع، إلى مؤسسات التعليم والتربية، إلى أجهزة النشر والإعلام وغيرها؛ يتوجه إليهم لمعرفة مقدار إقبالهم على السماع، على القراءة، على النشر والتوزيع، على العرض والشرح وغيرها. وهي أسئلة ذات أجوبة سلبية في الغالب... 

لماذا يَحدث هذا ؟ أيقتصر الأمر على إهمال، أو إغفال ؟ أهو ممَّا يمكن حلُّه بالتنشيط والدعم ؟ 

أحد الشعراء كتبَ عن "الحق في الشعر" : أهو حقٌّ فعلًا ؟ ألا يكون مرهونًا بسياقات تُوجبُه مثلما تُباعد الحاجة إليه ؟ ألا يكون انحسارُ رقعةِ الشعر متأتيًّا من تناقص الحاجة إليه ؟ 

للجواب على هذا السؤال (الذي لا يتمُّ طرحه في الغالب)، يُستحسن القول إن مكانة الشعر السابقة لم تعد كما كانت : كانت تتأتى وتتحدد من مردود الثقافة العالِمة، فيما كان يُنظر إلى غير الشعر، إلى الإنتاجات المادية الجالبة للزينة والجمال، على أنها دونية، من عالم "الصُّناع". 

هذه الحال تبدلتْ، بدليل أن التعليم بات أكثر انتشارًا، والإقبال على أنواع الكتابة أكثر تعددًا وجدة. هذا ما يُمثله السطوع الباهر للسرد، ولا سيما للرواية، في العالم، إذ يَجمعَ، في بنائه واستهدافاته، أعرض الفئات المتعلمة، في شروطِ تلقٍ ميسرة أكثر من القصيدة : في السيارة، في القطار، في كراسي الاستلقاء، وجنب السرير قبل النوم... هذا ما سهلَه الفيلم والمسلسل التلفزيوني ونشرَه أكثر، بحكمِ  احتياجهما إلى أنواع سردية. 

لهذا لا يمكن القول إن الرواية حلتْ محل القصيدة. فما قدمتْه الرواية مختلف، ويتناسب أكثر مع الزمن الاجتماعي والتاريخي والثقافي، ومع الاعتيادات والسلوكات في المدرسة والبيت والمقهى. 

هذا ما يمكن قوله في الفنون عمومًا، في الأغنية واللوحة وغيرهما. إذا كانت اللوحة مثلتْ قيمة مكفولة في الاستثمار المالي والرمزي، فإن الأغنية (ومتعلقاتها الجديدة من "كليب" وغيره) سهلتْ، بل رافقتْ، وسرَّعتْ بالأحرى عالميةَ الحركة والطلة والنغمة. هذا ما نجده - اختصارًا - منذ "دعسات" مايكل جاكسون الرشيقة، أو في أغنيات (حتى عربية) بلغت المليار مشاهدة وأكثر في أيام معدودة. 

إذا كانت الرواية، من جهة، والأغنية، والفيلم واللوحة، من جهة ثانية، جذبتْ إليها أوسع الحضور وعالي الاستثمارات، فإن القصيدة تراجعت في عصر "تفاقم الصورة"، وعلى حساب الكلمة : باتت القصيدة تقيم في وحشتها.

ما زاد من تناقص الحاجة إلى الشعر، ومن الإفادة (بأكثر من معنى) منه، أن غيره من الفنون "استوعب" بعض مقومات الجمالية الشعرية فيه. أتى هذا كله - لو طلبتُ جردة حساب سريعة، وربما مبتسرة - على حساب الشعر. كيف ذلك ؟ 

ما يمتاز به الشعر عن غيره من خيال واستعارات ومجازات، ومن تعابير حرة ومبتكرة، ومن امتيازات وجوازات في بناء الشكل وغيرها، بتنا نجده، بهذا المقدار أو ذاك، في "عدة" الرواية واللوحة والفيلم وغيرها. حتى أستاذي، ا. ج. غريماس، لم يتردد، في تشدده المنهجي، في مقدمته لكتاب بالغ القيمة في سيميائية الشعر، عن الحديث عن "شعرية السينما" ! لهذا أفضى الكلام إلى طرح السؤال : هل بات الشعر أخرس ؟  

قد يصدم العنوان كثيرين، إلا أنه خطر على ذهني إثر المحادثة التي تلت الموافقة على إلقاء محاضرة... خطرَ مثل من يقرع على باب، فلا يستجيب له أحد؛ غير أن القرع على الباب علا أكثر فأكثر، فكان أن تلقى الجواب. ما خطر على بالي لم يكن فجائيًّا، بل كان يتعالى في خفائه من دون أن يبلغني...  

القصيدة شهدتْ، في تاريخ كتابتها العربي، أحوالًا وأحوالًا، حتى إنها لم تعد، هي نفسها بالضرورة، في مسارها : تبدلتْ، وتحولتْ، ولم يبقْ لها ما يجمعها بعضها ببعض سوى أنها بالعربية - هذه العربية المتبدلة، المتحولة، بدورها. 

ليس لي، هنا، أن أتتبع، أو أفحص أحوالها هذه. أكتفي بالقول إن بناءها شهد تجليات مختلفة لها. هذا يصحُّ في بنائها القالبي، في تتابع وترابط أبياتها، بل سطورها (منذ القرن العشرين). هذا يصحُّ في "موضوعاتها"، بين أنواع وأغراض تغلب عليها التخاطبية الاجتماعية، وبين كونها ذات تعبيرية تواصلية عبر الشاعر، الذي هو المنشد والمعبر والمتكلم. 

سبقَ أن تبينتُ في أحد كتبي ("كيان النص") ثلاثة تجليات متحققة للشاعر الحديث في القصيدة : بوصفه شاعرًا، بوصفه متكلمًا، بوصفه صوتًا :

  • الشاعر هو صاحب القصيدة بمعنى مالكها والمتحكم بها، ما نجد صورة تمثيلية عنه في الشاعر المنبري، الذي يتكلم فيه الشاعر عن غيره، ولغيره، ولكن بوصفه الشخص الذي يقف أمامنا، ونتعرف إليه في هيئته الاجتماعية؛
  • الشاعر (في المثال الثاني) هو المُعبِّر والمؤدِّي : ما تعني جملة محمد الماغوط الشهيرة : "أنا حذاء" ؟ ما تعني عبارة أدونيس الشهيرة بدورها : "لغمُ الحضارة : هذا هو اسمي" ؟ ألا يفصل الشاعر بين شخصه وملكته الشعرية، ويصبح في خدمة قصيدة، أو قضية، أو جمهور، أو "مناسبة" وغيرها ؟
  •  الشاعر (في المثال الثالث) هو من لا وجه له، أو لا يتعين في الحضور الاجتماعي أو الفردي لصاحب هذه القصيدة؛ كما لو أنه صوت، بل أصوات، مما يتأتى في خفائه وعتمته، في هبوب النَّفَس.

 

إذا كان المؤلف المسرحي أو الروائي يتوزع (بمعنى ما) في "شخصيات"، فإن الشاعر يتوزع في أصوات من دون أن تكون ذات هوية مسبقة أو قابلة للتحديد، ومن دون أن يكون كلامها محتَجزًا، ثم منفلتًا بالتالي. 

لطالما كنتُ أتبين، عندما كنتُ أقرأ، أنهم يُدرسونني : أن الأدب انعكاسٌ، وأن الكتابة هويةٌ، أي ثابتة، أو "مدلوقة" في كتاب، مثل حليب طازج أو بارد بعد أن انتظر طويلًا... 

غير أنني انتهيتُ إلى التحقق من بطلان الهوية الثابتة، المعلنة أو الخفية، والأكيدة في نهاية المطاف. هذا يعني كذلك بطلان ناتجٍ عن الهوية، وهو علاقة الصدور والتناسب بين ما خفي في الصدور وما يتجلى : الشاعر يتبنى وحسب، أو يقر، بما أتى من صنيعه. 

لهذا أتساءل : هل الشعر بات أخرس أم أن صوته يغور، فلا يُسمع ؟

ألا يكون صوته هو ما لا يَظهر، ما لا يتجلى في أنواع الكتابة الأخرى ؟

ألا يحمل إلينا صوتُ الشعر ما يَختفي، أو نُخفيه، أو ما لا نعرفه أو نقصده مثل زائر غريب لا يلبث أن يصبح أليفًا بل صاحب الدار ؟

لهذا يشتمل الشعر، في صفائه البعيد، على الدهشة، بل على الصدمة أحيانًا. لهذا ينشر طفولة اللغة فوق خشبات الانفعال، وتجليات الرقيق والعنيف والساخر والمتهتك.

ألهذا يكون الشعر حيث لا يكون غيره : في مجازه، وعصيانه، وتخييله، وتنفسِه في فضاء ما ينبني فيه، لا خارجه ؟ ألهذا يغور صوت الشعر، فلا يخرس ؟ يَتباعد، يَصمت، ويمتنع عن الكلام، من دون أن تتبدد تمامًا حاجة القائل إلى القول، إلى التلفظ، إلى التنفس. ففي هذه الحاجة لا يخفف الشاعر من ثقلِ، أو من خفة الكائن الذي فيه، بل يرتمي في ما يستبقُه، مثل عصا الأعمى من دون سبيل معلوم.

الصوت ما يَصدر عني من دون أن يكون لي؛ وسواسٌ من دون أن يكون مذمومًا.  

الصوت هو الآخر الذي فيّ، من دون أن يكون كائنًا؛ له هيئة كلامية وحسب، ولا هوية مسبقة أو لاحقة له. هو الذي يَعبرني من دون أن يكون منتَظرًا بالضرورة. 

الصوت ينتهي في قصيدة من دون أن يستقر فيها، من دون أن يعني ما هو قابلٌ لتحديد. 

الصوت في القصيدة ليس رسالة وصلتْ من صاحبٍ لها؛ ولا من بَسْتلمها هو من يقوى على تملكها مثل خبر أو إشعار بحسن الاستلام. 

هذا الانزياح الغامض هو ما يربطني بالشعر، على أن المخاتلة هي التي تُقال في قصيدتي، ما دامت تُمكِّنني من أن أكون غيري، ومن أن يكون المعنى لا وديعة، بل رهانًا في أفق، وامتدادًا أبعد من خطواتي في الوجود.


(مهرجان "عنبر"، بيروت، 18-3-2023)