حديث الفن قديمٌ وراهنٌ. هو كما هو. هو كما لو أنه غيرُه. الفن يمتدُّ، ويتشابه، ويتعدد، ويتخالف، ما إن ينتقل الدارس من ثقافة إلى أخرى، من عهد إلى آخر. الأكيد هو أنه يتعيَّن أكثر ممّا مضى في ماديته، من جهة، وفي علوِّ مكانته، من جهة ثانية. ما كان أقربَ إلى مثال ماورائي في قيمته العليا، ويُنظر إليه، في التفلسف الإغريقي، بوصفه "نسخة متدهورة"، اختلفَ كيانُه في المدونة الجمالية المتأخرة، إذ إن كُتّابها باتوا يَنظرون إلى إنتاجات الفن بوصفها عينة الوجود الأكيدة، لا المتعالية.

يكفي أن نعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، لكي نتحقق من أن لوحةً لأوجين دولاكروا كانت تُباع، بعد عشرين سنة على بيعها الأول، بالسعر نفسه (ما يعني أنها فقدتْ بعضًا من قيمتها المالية) : هذا ما لا يمكن تصوره، اليوم، إذ إن ما لم يكن يُباع من أعمال فنسنت فان كوخ قبل مماته، تبلغُ قيمةُ لوحةٍ واحدةٍ من أعماله، اليوم، مئات الملايين من الدولارات. 

لهذا فإن البحث، أو التدقيق، في وضع الفن أنطولوجيًّا، أو جماليًّا، لا بستقيم تمامًا من دون تحدّداته التاريخية كما الاجتماعية؛ هذا ما قام عليه اشتغالي في الفن، القديم أو المتأخر، سواء في فلسفته أو في تاريخه.

 

إعادة إنتاج الفن الإسلامي

لنتوقف عند الفن الإسلامي، وهو الأقرب إلينا في تاريخنا أو في الثقافة المتأخرة. 

اللافت، بداية، أن تسمية هذا الفن، فضلًا عن متنه الدراسي، يعودان، في المقام الأول، إلى الثقافة الغربية، وليس إلى الثقافة الإسلامية بالعربية. هذا يعني أن بناء "متنٍ"، مادي وتأويلي، لهذا الفن تأتَّى من عناية أوروبية، ثم غربية، به. هذا ما تمَّ استدعاؤه من هذه الثقافة؛ وهو ما نتعرف إلى تجلياته الفنية في متاحف الغرب. هذا ما أسمِّيه : إعادة إنتاج الفن الاسلامي. 

هذا ما جرى قبولُه من دون نقاش، إلا في النادر، مثل عِلمٍ منزَل، فيما هو صنيع مادي وفكري، تاريخي، يتوجب النظر إليه في عمليات إعادة التملك هذه : تملكُ مواد هذا الفن، وصياغة متنه التفسيري والجمالي على حساب ثقافته القديمة المحيطة به. هذا ما كان ممكنًا لأسباب مختلفة. أحدُ هذه الأسباب هو أن قيمة هذا الفن في الخطاب القديم لم تكن محصَّلة أو أكيدة، في هذه الثقافة أو غيرها. هذا ما أوجزُه، وأختصرُه بالكلام التالي : كان هذا الفن موجودًا؛ هو من متاع الدنيا، لكنه لا يرقى إلى الشعر، أو الغناء. هذا مدعاة إلى نقاش تاريخي واجتماعي وجمالي شائك وواسع. لنقلْ -باختصار- إن هذا يعود، في أسبابه، إلى مكانة الصورة المتدنية، أو الدنيا، في تلك المجتمعات القديمة؛ وهو ما كان يقع بين المنع والامتناع  :  

- منعُ الصورة الآدمية الصريحة في علانية المجتمع، ولا سيما منعُها من أن تكون جزءًا من الشعائر الدينية أو العبادات، أو من أمكنتها. 

هذا ما عنى أيضًا، في التجارب التاريخية لهذه المجتمعات، ولدى الصُّناع، الامتناع الذاتي عن إظهار الصورة في كل ما يحتاجه الدين في طقوسه وأمكنته وتعبيراته، وفي كل ما يحتاجه الحاكم، أو مقرّاته، أو تعبيراته. 

هذا ما يمكن اختصاره يالقول : لم تكن الصورة الآدمية، ولا مَشاهِدُها، موضوعًا لفن الصورة، ما جعله فنًّا يكتفي ويتفنن في ألعاب الشكل، بين خطي وزخرفي وهندسي. وهو إظهارُ فنِّ مختلف للصورة، لا يقوم على المحاكاة، بل على أقيسة شكلية، بين يدوية وأداتية.

 

الصورة المأزومة

يطلب هذا الكلامُ الوقوفَ تحديدًا لمساءلة مقام الصورة اليوم في هذه البلاد والمجتمعات. وهو ما يمكن الاستهلال به بالقول : إذا كانت الصورة الإسلامية إشكاليةً بين المنع والامتناع، فإن الصورة العربية، أي المتأخرة، تخطتْ هذه الإشكالية، وباتت مقبولة. 

مِثلُ هذا الكلام كان ليكون مقنعًا لو قيل في سبعينيات القرن العشرين، وقبله. ففي هذا العقد السبعيني، وما سبقَه، كان فن الصورة يكتسب حضورًا ومشروعية، بل بدا كما لو أنه يستلحق ما فاتَه من إعاقات سابقة وقديمة. يكفي، لذلك، العودة إلى إنتاجات أفلام السينما، إلى مسلسلات التلفزيون، إلى الصورة الفوتوغرافية، لكي نتحقق من أنها ما كانت تتقيد بممنوعات سابقة، وما اتُهمت، لا بالكفر، ولا بالوثنية، ولا بمضاهاة الخالق في صنعه. يكفي أيضًا العودة إلى أكاديميات الفنون ومدارسها، هنا وهناك، لكي نتيقن من أنها كانت تنشأ تباعًا، منذ مطالع القرن العشرين، من دون حرج، حتى إن رسم "الموديل العاري" لم يكن منبوذًا أو  ممنوعًا في غالبه. كما يكفي التنقل بين معروضات سابقة، لقيصر الجميل أو عارف الريس أو جوليانا ساروفيم، في لبنان، أو لمحمود سعيد، في مصر، لكي نتحقق من أنها تستعذب إظهار جمالات الجسد المكشوف، الأبيض أو الأسمر... 

ما يمكن القول هو أن هذه الأحوال والأمثلة لا تختصر مسارَ فن الصورة الفنية وسيرتها العربية، قبل سبعينيات القرن المنصرم، إلا أنها تشير إلى  قبول الصورة مع قدر من الحياء والخفر الاجتماعيين. فماذا جرى في السبعينيات وبعدها ؟ 

هذا المدُّ الصوري بات موضعَ نقدٍ وتبرمٍ ومنعٍ وأفعالٍ عنفية، ما يمكن ربطُه بصعود تيارات إسلامية باتت تربط بين الايمان الصحيح وأحوال الكفر، بل تنسبه إلى وثنية زاحفة. ما تأكدَ، ابتداءً من السبعينيات وبعده، حتى اليوم، هو انكشاف الصراع المذهبي السني-الشيعي، الذي لم يمنع فن الصورة، لكنه وضعَ المسلم والفنون في وضع الشبهة، في وضع الضبط المستجد. 

من يتابع أحوال المجتمعات والفنون فيها، وأحوال المسلمة في ظهورها، وزيِّها تخصيصًا، يتحقق من الرقابة المتمادية المُطبقة عليها، أكثر من غيرها، والتي لا تستند إلى قوانين ذات أساس دستوري وتشريعي، ولا إلى أساس ديني وفقهي متين. هذا يعود إلى الصراع على الغلبة، كما أسمِّيه، وهو يتشابه، في هذين المذهبَين، مع فروقات، الا أنه يَطلب التحكم بالجماعة، أخلاقيًّا تحت ستار الدين، وسياسيًّا بحجة الدفاع عن سيادة الله. هذا يعني، في الأحوال المختلفة، ضعفَ شرعية الحكومات، المشكوكةِ السياسة، ما يجعلها ضعيفة ومتخاذلة وقابلة لتعديلاتٍ في تطبيق الأحكام. هذا ما نجحَ في فرض ما بات يسمى "الزي الإسلامي"، أو في إعادة إنتاج أفلام وأفلام بعد حذف القبلات والمشاهد "الساخنة" فيها وغيرها.

فنُّ الصورة سدَّدَ بدوره بعض هذه الكلفة، وزادت فيه مقادير المنع والامتناع ااقديمة، ما لا حاجة لاستعراضه.
هذا النزاع يشمل قوى وقوى تسترشد بالإسلام، وتعيد النظر في مسائل متعددة، ما يقع الخلاف فيه : بين الخليفة أو الولي الفقيه أو الأمير وبين رئيس الجمهورية، بين الشريعة والدستور، بين الفقه والقوانين وغيرها الكثير. 

في معمعة هذا الاحتدام تمُّ جرفُ مسألة الصورة من دون مناقشة.

 

الصورة الوثنية

كان لتجربة محمد، في تأكيد رسالته التوحيدية، أن تواجهَ معتقدات وسلوكات وأنصابًا وثنية في الجاهلية. هذا ما تؤكده أربعُ آيات قرآنية، وعددٌ من الأحاديث النبوية ذات السند المتين. وعنتْ هذه المواجهة إبطالَ ما يهدد الرسالة التوحيدية، أي ما يضاهي عمل الخالق.

لو عدنا إلى منطوق الآيات القرآنية، لوجدنا أن المعني بالصورة فيها، هو الجنين، أي الخلق، الذي يتكفل به الله الواحد الأحد. أما الحديث النبوي الشهير عن معاقبة "المصورين"، فيُستفاد فيه أن هؤلاء يَعجزون، يوم القيامة، أمام الله، عن إحياء ما خلقتْه أيديهم، ويستحقون، بالتالي، العقاب الشديد.

معنى هذا كله يؤدي إلى أن المعتقد الإسلامي، في تحديداته وسلوكاته الأولى، لم يمنع الصورة، ولا فن الصورة، ولا الفنانين، وإنما حاربَ التصورات الوثنية، بل مصنوعاتها وصانعيها، ما داموا يسعون إلى "مضاهاة" الفعل الرباني. هذا الموقف التوحيدي لم يؤدِ إلى تحريم الصورة الفنية، ولا يوجد أي شاهد قديم يؤكد مثل هذا التحريم. إلا أن هذا الموقف ما لبث أن تعيَّن، في التدين القديم، في عدم تحبيذ الصورة الفنية، ما شكَّلَ امتناعًا عن الإقبال عليها، بين صنعها واقتنائها.

لقد توصلتُ، في تحقيقاتي التاريخية، والفنية، إلى التأكد من أن الموقف من الصورة الفنية اكتسبَ بعض المشروعية في النزاع الأموي-البيزنطي (في مساعي "فتح" القسطنطينية). فالشواهد عديدة، لا سيما في عهد عهد الخليفة سليمان بن عبد الملك ابن مروان (674-717)، وقبله، التي تدلُّ على أن الصورة، والأيقونة البيزنطية حصرًا، باتت أقرب إلى علامة كبرى في النزاع، وواعزًا للتمادي في الحرب. هكذا التقى الموقف التوحيدي من الصورة الوثنية مع الموقف السياسي النزاعي، الذي وجد في الأيقونة نوعًا من الذريعة لتسويغ النزاع وتشريع "الفتح"، من جهة، ولتأكيد سلطة المروانيين بعد اهتزاز الخلافة الأموية وتصدعاتها، من جهة ثانية.

أدافعُ، في بحوثي، عن أن هذه اللحظة الصراعية حول الصورة الفنية والعبادية وجدتْ للمدونة الفقهية (منذ ذلك الوقت) سندَها، ومشروعيتها التي تطلبُها. ومن يَعُدْ إلى المدونة الفقهية (مثلما عدتُ إليها)، يجد أن هذا التعيين الثاني (بعد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأعمال النبي) تأكدَ في فتاوى الفقهاء من دون أيِّ فحصٍ لأسبابه، ولا لأيِّ تمحيصٍ في دواعيه، العائدة إلى محاربة الوثنية، من جهة، وإلى لزوم استكمال "الفتح"، من جهة ثانية.

من يَعُدْ، اليوم، إلى هذه المدونة، وإلى السلوكات والمواقف والتفسيرات المصاحبة لها، يجد تباينًا بين الموقف المذهبي الرسمي من الصورة، سواء لدى مَراجع السنة أو مَراجع الشيعة، وبين تجليات التدين الاجتماعية، أو لدى الفرق "المُغالية" في الإسلام السياسي الحالي. هذا ما يدعو إلى التأكد من بروز لحظة مستجدة في هذا المسار، وهو التعرض الساخر لشخص الرسول في عدد من رسوم الكاريكاتور لدى رسامِين أوروبيين. 

هذا ما يغيِّب بعض الشيء ما حصلَ في اللحظة العثمانية، التي جلبتْ، منذ عهد سليمان القانوني (1494-1566)، شيئًا من الشرعية للصورة الفنية، تلبية لحاجات سلطانية ودبلوماسية في إظهار هيئة السلطان؛ وهي حاجات ما لبثت أن بلغت، بعد السلطان والباشا والأمير، بعضَ الأعيان والمشايخ و"الأفندية" وسيدات المجتمع الراقي الناشئ.

إلا أن ما يتوجب قوله، في هذا السياق، هو أن متطلبات قيام "الدول" العربية، الخارجة من السلطنة العثمانية، هي التي استدعتْ إلزام الصورة الثبوتية في بطاقة الهوية، وفي جواز السفر. وهو ما استكملتْه الحاجات الرمزية، التي باتت تستدعي طبعَ صورة الملك أو الأمير أو رئيس الجمهورية فوق أوراق العملة النقدية. هذا ما استعذبَه، وراقَ لأدباءٍ عرب بدورهم منذ النصف الأول من القرن العشرين، إذ وجدوا، في طبع صورِهم على أغلفة كتبهم، الشهرةَ التي بات لازمة (في نظرهم) لكتبهم ولشخوصهم. بل يمكن القول إن رواج الصورة الفوتوغرافية سهَّلَ وأجازَ الصورة الفنية، مثلما سهَّلتْ الجريدةُ صدورَ المخطوط في هيئة طباعية.

إلا أن سريان الصورة، الثبوتية أو الفنية، لم يَحُلْ دون بقاء الأساس الفقهي للصورة في الخطاب والمعتقدات. فغير فقيه، مثل محمد عبده (1894-1905) في مصر، ومحمد الحجوي (1874-1956) في المغرب، أجاز الصورة؛ ووجد أن لها منافع ضرورية ولازمة. لكن هذه الفتاوى والإجازات أو القرارات الرسمية المشرِّعة لوجود الصورة بين الأفراد، في الجريدة، قبل السينما والتلفزيون، لم تنظر من جديد في الخطاب العقيدي، أو الفقهي، أو الساري في التدين الشعبي من الصورة. هكذا باتت الصورة، بجميع تجلياتها وإنتاجاتها، ممكنةً، مُشاعةً، في نوع من العولمة الباكرة والمتمادية. هذا ما ظهرَ أشدَّ ظهورٍ في مشيخات الخليج العربي حيث إنها باتت تبني متاحف للصورة، وتؤلف مجموعات منتخبة منها، فيما يمكن التحقق من أن الاعتقادات السارية في تلك المجتمعات بقيت تحذر وتتجنب، حتى لا أقول : تُمانع، وتَحظر الصورة الفنية.

هكذا نجد، في العقود الأخيرة، أحوالًا نزاعية ومتباينة بين حضور الصورة في أوراق العملة النقدية، في دعايات الملك أو الأمير أو رئيس الجمهورية، الانتخابية أو السياسية، وفي القصور والدُّور وقاعات المطارات ومكاتب الوزارات، وفي إعلانات الشوارع أو التلفزيونات، وبين المواقف والاعتقادات السارية لدى الجمهور في الغالب.

الصورة الفنية مقبولة، إذًا، ولكن من دون معنى قابلٍ لها بالضرورة. مثل هذه النزاعات والتباينات قد لا يتوقف عندها الدارس أو المتابع، أو لا يعيرها أي اهتمام، فيما تشي بثقافة نفعية أو استعمالية في غالب الأحوال. فاقتناء لوحة فنية قد لا يعني، عند مقتنيها، شيئًا غير امتلاكِ حجرٍ نفيس، أو عقارٍ باذخ.

سريانُ الصورة، أو قبولُها، يحتاج إلى ما يُشرِّعها في البناء الثقافي والقيمي. فهي ليست، أو لم تَعُدْ، مقتنى بل علامةً عن الوجود، وعن المتعة فيه. فمن يراجع تاريخ الصورة، أو فلسفتها، في الخطاب الأوروبي، ثم الغربي، يتحقق من أنها، بعد أن كانت صورة محاكية لعالم المُثل، أو للوجود، أو للإنسان، أصبحت علامة ثقافية وجمالية قائمة ومكتفية بنفسها، وتتعدى فكرة المرآة العاكسة أو الضامنة. يكفي التوقف، ابتداء من الانطباعية وصولًا إلى السوريالية والتجريدية، لكي يتمَّ التحقق من أن الصورة الفنية خرجت من/وعلى مبدأ المحاكاة الناظم للفلسفة منذ الإغريق. وبانت الصورة الفنية، بقيمها اللونية، بألعاب الشكل فيها، جالبةً لما هو متعة متأتية منها، حيث لم تعد الصورة الفنية لوحًا مدرسيًّا، بل لكي يلتذ بها الناظر "من دون غاية"، مثلما حدَّدَها الفيلسوف كنط.

هذا الوجود المقبول للصورة، والفنية منها، بقي –مع ذلك- عرضة للتجاذبات، ولا سيما للخصام السياسي، الذي يتخذ من حرمة الدين، ومن سلامة الأخلاق، غطاءً له، وعلامةً لانتشاره وتسيُّده. هذا ما جعل الصورة علامةً في الصراع الداخلي، فضلًا عن أن البعض الآخر، في مجتمعات أوروبية، يتخذُه لافتكاك جماعات المسلمِين ممَّا يعايشون تحت أحكام دستوره وقوانينه. لهذا فإن نقد فقه الصورة –على لزومه- لا يستجيب لِما يُحرِّك المَوَجان الإسلامي في تجلياته "المغالية"، والدموية في بعضها : علينا أن نبحث عن أسبابها في دواع أخرى، لا علاقة لها بالفن، ولا بالصورة.

 

بين الدين والتدين

هذا ما يتوجب البحث عنه في التدين : لا أريد التوسع في استبيان التدين من الدين؛ وفي هذا أقوالٌ كثيرة تجعل التدين تطبيقًا لِما هو في الاعتقاد، سواء في الايمان أو في العبادة. أكتفي، هنا، بالتمييز التالي، وهو : بين الدين بذاته، والدين بغيره. وأريد من هذا ما هو أبعد من العلاقة البينة بين قطبَين في المعنى والاعتقاد؛ إذ أريد، من هذا الاستعمالِ المفهومي، الاشارةَ إلى أن التدين (في قولي) يدلُّ على وعي الدين والعمل به، أيًّا كان هذا الوعي، وهذا العمل. وهو ما يرمي إلى التعميم في كون أيِّ فعلٍ إنساني، دائرٍ حول الدين، هو فعلٌ تديني، بل أكثر من ذلك. وهو أن الدين مطلقٌ، لا يتعين إلا وفق ما يتناوله التدين في نسبيته واجتهاداته واختلافاته. لهذا تَعرف الثقافة كتبًا ومقالات في التدين، فيتمُّ تقديمُها على أنها خطاب الدين. بل أدافع عن القول في أن أيَّ خطابٍ ديني هو خطابٌ تديني بالضرورة، أي نسبي، واجتهادي، وتدبيري، أيًّا يكن سبيله أو مآله. 

هذا يعني أنني، عندما أطلب درسَ الفن بين التدين والمتعة، فأنا أطلب، من جهة، التحقق ممّا يقوله خطاب تديني في الفن، وممّا يعتقده هذا الخطاب التديني، من جهة ثانية، في كون الفن جالبَ متعةٍ أم مانعًا أو محرمًا لها أو ممتنعًا عنها. هذا ما أوجزُه، بداية، بالقول إن الخطاب التديني الإسلامي لم يُحرِّم الفن (تحديدًا فن الصورة)، وإنما أجاز فقهاء مسلمون، بين شيعة وسنة، هذا الفن في صيغ إنتاحية بعينها، ومنعَها في صيغ إنتاجية أخرى؛ ويعني هذا أن الخطاب الفقهي تعيَّن في موضوع الصورة في منظور نسبي وتدبيري. 

إلا أن هذا الموقف البيِّن في خطاب فقهاء، لم يُماشِ معتقدات سارية، لا سيما في فترات الحروب والتأزم، التي اتخذتْ وجعلتْ من الصورة علامةَ الكفر، وانتهاكِ إرادةِ الله الذي لا يقبل المضاهاة. ولا يسعني، هنا، التوقف عند هذا العمق "الشعبي"، المأثور، ضد الصورة، إذ إن له تاريخًا يستحق الفحص والدرس بالضرورة، ومنها في العقود الأخيرة، حيث إن اشتدادَ تأزمِ علاقاتِ أحفاد المهاجرِين مع ثقافات مجتمعاتهم الأوروبية طلبَ من الصورة، ولا سيما من التعرض لهيئة الرسول، ذريعةً لإعلان العصيان على هذه المجتمعات، أو محاربتها، أو عدم الاندماج فيها، بحجة تنفيذ مشيئة إرادة الله، أو حماية دينهم من التعديدات والتجديفات. 

هذه "المناخات" الحربية أو السلمية مع الصورة تتراجع، مع ذلك، وتكتسب الصورة مشروعية عريية وإسلامية واسعة؛ وما بقيَ من معاداةٍ لها يبقى مقيدًا في عدم التعرُّض -خاصة الساخر- لهيئة الرسول.
هل يعني هذا أن الصورة لم تعد ذات وجود إشكالي، من جهة، وجالبة لرغبة مباحة بل مرغوبة، من جهة ثانية ؟ هذا يدعوني، بالضرورة، الى البحث في دواعي إجازة الصورة لدى المتأخرين. هذا ما أستعرضه لدى فقيهَين : مصري، محمد عبده، ومغربي، محمد الحجوي. 

 

محمد عبده : إجازة صريحة للصورة

هذا ما تناولَه الإمام محمد عبده، فـ"أجاز" التصوير، وتطرق لـ"الصورة" بوصفها "فنًا"، كما لاحظَ ذلك وأعجب به، وبفوائده، في مجتمع جزيرة مالطة (في أحد أسفاره). ويحتاج هذا الموقف إلى عرض وتبين، نظرًا لجدته الحاسمة في كلام فقهاء عرب عن الصورة الفنية، وفي أكثر من وجه. فاللافت أن عبده لم يعالج موقفه في "فتوى"، وإنما أوردَه في معرض رحلته إلى مالطة، وفي كلامه عن "حرص" أهل الجزيرة "على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج" (م. ن.، ص 204). وهو يُجري، لهذا الغرض، مقارنة لافتة بين وظيفة الشِّعر عند العرب، ووظيفة الصورة عند الأوروبيين، إذ يقوم كلُّ فن منهما على "حفظ" أحوال الأفراد والجماعات؛ وهي مقارنة مشفوعة بما قاله النقد البلاغي الأوروبي القديم (والمستمر في زمن عبده) حول أن "الرسم ضربٌ من الشعر، الذي يُرى ولا يُسمع"، وأن "الشعر ضربٌ من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى" (م. ن.، الصفحة نفسها). 

لا يتعمد عبده إصدار "فتوى"، وإنما يورد الكلام في الصورة في سياق العرض، إذ يكتب : "ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي ما حكمُ هذه الصور في الشريعة الإسلامية (...) هل هذا حرام ؟ أو جائز ؟ أو مكروه ؟ أو مندوب ؟ أو واجب ؟ فأقول لك :..." (م. ن.، ص 205). وهو ما يقول فيه قولًا لم نجده، سابقًا، في العقود عينها، عند فقيهٍ مسلم، إذ "يجيز" الصورة الفنية لكونها ذات "فائدة محققة" في حسابه : "إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد مُحي من الأذهان" (م. ن.، الصفحة نفسها). ويفيد قوله أن النهي الإسلامي عن التصوير يعود إلى أسباب الثقافة الوثنية في أيام الرسول؛ وهو ما لا يلبث أن يؤكده تمامًا، عائدًا إلى الأحاديث النبوية نفسها، إذ يكتب : "فالذي يغلب على ظني (...) أن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببَين : الأول : اللهو، والثاني : التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين؛ والأول ممّا يبغضه الدين، والثاني ممّا جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغلٌ عن الله، أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة، كان تصوير الاشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات" (م. ن.، ص 205-206).

يُستفاد من قوله، بالتالي، ابتعاده عن مواقف سابقِيه، متعاملًا مع النص الديني تعاملًا يُقرن التأويل بالسياق التاريخي الملازم له؛ فهو لا يقر الألفاظ صراحة كيفما وردت، وإنما يعيدها إلى زمن قولها، وسياقه التفسيري، ما يعني أن ما كان يُقال عن "تحريم" الصورة القديم كان أساسُه حصرًا كراهيةَُ الوثنية. كما يرى عبده أن من فوائد التصوير إظهار "هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، أو أوضاعهم الجسمانية"؛ ويُجري مقارنة بين ما تميزه اللغة في تعابيرها من "انفعالات" و"أوضاع" إنسانية، وبين ما يمكن للتصوير حفظُه بالتالي من تعابير؛ وفي رأيه هذا يبتعد عما نهى عنه الفقهاء من تصوير "حي" بالتالي.

إلا أنه يتوجب التشديد على أن عبده يقرُّ بفائدة التصوير بوصفه من "وسائل العلم" : "يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرمَ وسيلةً من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل" (م. ن.، ص 206)، ما يعني أنه يعتبر الفن وسيلة "نافعة"، لا جمالية. وهو يبرهن على ذلك في كون المسلمين أضاعوا الكثير ممَّا كان يجب حفظه، ومما كان له –لو حُفظ– أن يفيد عن ذلك التاريخ وتلك الأحوال.

كما يقول عبده (في مجال تعليقه على "نهج البلاغة") : "إن الرسم على الورق والأثواب لا يمنع استعماله، وإنما يتجافى عنه بالنظر تزهدًا وتورعًا" (م. ن.، ص 208). وهو قولٌ يجيز الرسم، إذًا؛ وإذا كان البعض يتجنبونه، فيُعَدُّ هذا من باب الورع والتزهد، وليس من لزوم الدين بالتالي. 

يتضح، من دراسات مصرية خصوصًا، أنه كان لموقف عبده دورٌ فاعل في تنشيط أو في تشريع قبول ثقافة الصورة في مصر وأبعد منها، على الرغم من أن حضور الصورة كان قد تأكَّدَ قبل ذلك العهد في المجتمع المصري، في قصوره ودُوره، وبين أغنيائه وممارسِيه ومتعلمِيه ودُورِ عرضِه وغير ذلك. وهو ما يلقاه الدارس في مجتمعات أخرى قبل فتوى الإمام عبده، في بيئتَي جبل لبنان وبيروت، كما في دمشق وحلب وبغداد وغيرها، ما لا يحتاج الدارس إلى تأكيده.

هذه النتائج البحثية مختلفة، تؤكد على ما أبانه الدرس التاريخي، أي أن حكامًا وأفرادًا ونخبًا تعاملوا مع منتجات الصورة بوصفها "فنونًا"، وفق حسابات ودوافع لم تتعين في "الإجازة" الفقهية (أو عدمها) لها، وإنما في حَراك نخب في المجتمع وفي قيمهم وتطلعاتهم الناشئة. ولكن ماذا فعل الموقف الفقهي إزاء هذا الحضور، بل هذا الانتشار بالأحرى، في هذا المجتمع أو ذاك ؟ هل استمرَّ في حصانته التقليدية أم استوجب الحراكُ التاريخي والاجتماعي تعاملًا مختلفًا مع المسألة ؟

 

محمد الحجوي : إباحة الصورة

الفقيه المغربي محمد الحجوي يتحدث في كتابه : "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي"، في الجزء الأول منه، عن : "تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" (م. ن.، صص 98-99)، إلا أنه يتناول فيه خصوصًا تحريم الخمر، رابطًا بينه وبين التحريمات الأخرى (كما في الآية الكريمة) ليس إلا. وما يعنينا خصوصًا يتعين في الجزء الرابع من كتابه، إذ يتحدث فيه عن "حكم التصوير ونصب التماثيل بالمدن لعظماء القوم" : 

"سألني صدرُ وزراءِ الدولة التونسية بحضرة سادات أعلام وذوات أعيان سنة 1336 (1917) عن حكم التصوير، فأجبتُه : إن تصوير الأرض والشجر والجبال وغيرها من الجمادات لا بأس به، أفتى به ابن عباس، كما في "الصحيح". ولنترخص للضرورة في التصوير الشمسي كله، ولو حيوانًا أو إنسانًا، على ما فيه من الخلاف وقوة القائل بالكراهة والمنع. وقد قال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق : كلُّ ما لا ظلَّ له، فلا بأس باتخاذه، كما رواه عنه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. وفي "صحيح" البخاري أن زيد بن خالد الجهني علق في بيته سترًا فيه تصاوير، مستدلًا بقوله عليه السلام : إلا رقمًا في ثوب. ويدل للجواز أيضًا حديث عائشة عند أحمد وغيره أنها اشترت نمطًا فيه تصاوير، فأرادت أن تصنعه حجلة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اقطعِيه وسادتَين، قالت : ففعلتُ، فكنتُ أتوسدُهما ويتوسدُهما النبي صلى الله عليه وسلم؛ ونحوه في "الصحيح" على اختلاف في الرواية (...). فهذا دليل ترخصنا من السنة ومن النظر لما يدعو اليه الحال من ضرورة روح العصر. فإن التصوير الشمسي صار ضروريًا في الأمور التعليمية بالمدارس، و(الأمور) السياسية والحربية والتاريخية، ومنعُه منعٌ للأمة من رقيٍ عظيم. والوقت الحاضر لا يقبله بحال، ولم يكن في الزمن النبوي. فليقلد القول الذي يقول بإباحته بناء على أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة. فقال لي : فما تقولون في الصور المجسمة ذات الظل، فإن الأمم المتمدنة يعيبون علينا منعها، وهي تذكار عظماء الرجال. فقلتُ له : يا سيدي، قد نهى الشرع عنها نهيًا صريحًا. وحكى ابن العربي المالكي الإجماع على المنع، ولا ضرورة تلجئنا إليها. نعم ما كان داخلًا منها في باب التعليم، فقد يرخص فيه قياسًا على ما وَردتْ الرخصة فيه من الصور التي تلعب بها البنات لتعلم التربية. فقفوا -وعاكم الله- عند حد الضرورة، ولا تُحيوا سنن الوثنية، بنصب الهياكل في الميادين العمومية، ولا ضرورة تدعو لذلك. أما التنويه بعظماء الرجال، فأعظمُ تنويهٍ بهم أن نبني مدرسة باسمهم مثلًا، والتاريخ كفيلٌ بنشرِ مآثرهم، وليس التمدن في تقليد المتمدنين تقليدًا أعمى، في كل ما فعلوا، فهذا مذموم، وأنتم تعيبون على مقلدة العلماء. بل الواجب أن نأخذ ما لنا فيه فائدة، وندع ما لا فائدة فيه، وهم نفسهم متضايقون من عوائد وقوانين تمدنية، كرفع الحجاب وسهريات الرقص. وها نحن نراهم يمنعون الخمر، ويفكرون في إباحة تعدد الزوجات والطلاق. فأيُّ رقيٍّ، وأي ضرورة، تُلجئنا لنصب تمثال تذكارًا لوطني نحصل على تذكاره بما هو أنفع. بل نصبُ التماثيل عندهم من الأمور التحسينية، لا من الحاجية، ولا من الضرورية. وفي "الصحيح" أن أم حبيبة وأم سلمة رأتا كنيسة ببلاد الحبشة تسمى مارية، فيها تماثيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قومٌ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا له تلك الصور، هم شرار الخلق عند الله. وليس كل ما يعاب يكون عيبًا، وليس كل ما عابونا به مما هو عيب تجنبناه، وليس كل ما نفعهم بنفعنا، بل ما لم يهدم أصلًا شرعياُ. فاستحسنَ الحاضرون الجواب، بل وكذلك السائل" (م. ن.، ص 4، 241-243).

أوردتُ هذا المقطع الطويل من كتاب الحجوي لندرته وقيمته، على أن أعالج ما ورد فيه من مواقف بينة وجديدة في مسألة الصورة بمتعلقاتها كلها، من لوحة ومنحوتة وصورة شمسية (فوتوغرافية) وغيرها. وما يتضح، في بناء المواقف الفقهية لديه، هو أنه بناها وفق سندَين : السنة، من جهة، والضرورة، من جهة ثانية. ولا يحتاج الدارس إلى كثير من الشرح للقول بأن موقفه السني بعيد عن الموقف المتشدد، بل بعيدٌ كذلك عن مواقف فقهاء مغاربة، قدامى ومزامنِين له، ممَّن مالوا إلى "تحريم" صورة الكائن الحي في الغالب، ما يورده في هذه العبارة : "... على ما فيه من الخلاف وقوة القائل بالكراهة والمنع". فما سمح به التقليد الديني، سواء السني أو الشيعي، لا يتعدى السماح بتصوير الجمادات ليس إلا : "إن تصوير الأرض والشجر والجبال وغيرها من الجمادات لا بأس به".

يلتقي الحجوي في هذه النقطة الفقهية مع غيره، إذًا، ولا يلبث أن ينفصل عنهم في المسائل الأخرى الموصولة بالصورة. وهو يقوم، لهذا الغرض، بتفسيرات لأحاديث نبوية معروفة تختلف مع تفسيرات غيره : يبني رأيه الفقهي في إجازة تصوير "ما لا ظل له" على حادثة جرت بين الرسول وعائشة (حول الوسادتين الحاملتين لصور)، فيما يبني عليها فقهاء آخرون رأيهم في لزوم المنع، ما دام الرسول قد دعا إلى تمزيق الوسادة بحكم اشتمالها على صور.

لا يتوسع الحجوي في استعراض أو درسِ ما قيل في الأسباب المانعة للتصوير، مثل "عذاب" من "يضاهون" خلق الله، أو أحاديث نبوية معروفة حول مشاكل الصورة، إذ إن ما يشغله (على ما يتضح في فقرات هذا المقطع) هو مسألة الصورة في حياة المسلمين المزامنة له. وهو ما يندرج (كما سبق القول) في سند آخر لمواقفه الفقهية، وهو : إجازة الضرورة، أي : "النظر لما يدعو إليه الحال من ضرورة روح العصر". فماذا عن مواقفه هذه ؟

لا يناقش الحجوي مسائل الصورة، وجوازَها، وإنما يتوقف لمناقشة ما يمكن أن يكون عليه موقف المسلم، ولا سيما الحاكم (صدر الوزراء التونسي الذي طالبَه بإبداء رأيه في هذه المسائل الفنية) من قضايا مطروحة في زمنه. ومن اللافت في هذه أنه توقف، أولَ ما توقفَ، عند مسألة اعتماد (أو عدم اعتماد) الصورة الشمسية (الفوتوغرافية). وهي مسألة كانت مطروحة بقوة في عهد "الحماية"، إذ طلبتْ السلطات الفرنسية (وغيرها) إنزال الصورة الشمسية (الفوتوغرافية) على الأوراق الثبوتية، ولا سيما في جوازات السفر. وهو ما بات ضروريًا في الأنظمة التعليمية كذلك، حسب الحجوي، مشيرًا في ذلك، من دون شك، إلى دخول الصورة وسيلة من وسائل الإيضاح المدرسي، ما جعله يتحدث عن "الرقي العظيم" الذي يتأتى من اعتماد الصورة بالتالي.

هذا يندرج، إذًا، في ما يمكن تسميته بـ"فقه الضرورة"؛ كما يعلل الحجوي رأيه الفقهي بالقول : "على أن الأصل في الأشياء عدم المنع، ولأجل الحاجة"، وهو ما لم يكن معمولًا به لدى فقهاء بالضرورة. يجيز، إذًا، الصورة الشمسية (الفوتوغرافية)، ولكن ماذا عن الأعمال "المجسَّمة"، التي تشتمل على "ظل" بالتالي ؟ 

يتضح من كلام الحجوي أنه كان على بينة من الخلاف الناشب بين وجهتَي نظر : فرنسية (وأوروبية عمومًا) ومسلمة، من الصورة، إذ يشير إلى أن منعَها لدى المسلمين يعتبر "عيبًا" لدى الأوروبيين. ويمكن للدارس أن يخمِّن، أو أن يرجِّح، أن دعوة صدر الوزراء التونسيين لمعالجة هذه المسألة قد تكون متأتية ربما من حاجته إلى استبيان ما يمكن أن يكون عليه الموقف الفقهي من مسائل إقامة أنصاب العظماء في الميادين العمومية؛ وهو ما كان معمولًا به في ساحات مدن أوروبية عديدة، وما كانت تطمح إليه ربما سلطات "الحماية" في مدن عربية مثل تونس وغيرها.  

إذا كنا وجدنا شيئًا من المرونة والتسامح في موقف الحجوي من إجازة التصوير في بعض الحالات والاستعمالات، فإنه يبدي رأيًا صريحًا ومانعًا للتماثيل، إذ "نهى الشرع عنها نهيًا صريحًا"، فـ"لا تحيوا سنن الوثنية، بنصب الهياكل في الميادين العمومية". يعوِّل الحجوي في هذا المنع على رأي ابن عربي، بوصفه دالًا على "إجماع" في المنع. إلا أن نهيَه هذا لا يزيل الأسباب التي دعت ربما إلى إقامة التماثيل في المدن، أي "تذكار عظماء الرجال"، وهو "ضرورة" لدى الأوروبيين، وربما لدى بعض المسلمين. لهذا يفند القول بعد الحديث عن النهي، ويرى أن الأوروبيين ما اعتمدوا بناء التماثيل، إلا من باب "التحسين"، لا من باب "الضرورة"؛ كما يقترح –في حال وجود حاجة إلى تذكر العظماء لدى المسلمين– إقامةَ مدارس تحمل أسماءهم، عدا أن "التاريخ كفيلٌ بنشر مآثرهم".

هكذا تبدو اجتهادات الحجوي في مسائل الصورة ومتعلقاتها تخضع، فضلًا عن التقليد الفقهي، إلى حسابات جديدة، أي ضرورات العصر والتمدن ومجاراة الأقوام الآخرين. وهو، في ذلك، يتخذ موقفًا يبتعد عن المحاكاة العمياء، ويأخذ بما للمسلمين فائدة منه.  

هكذا أمكن القول إن انبهار الحجوي بالغرب وإيمانه بأسس تقدمه لم يكن مطلقًا، إذ كثيرًا ما اتخذ من بعض مظاهره مواقف انتقادية انطلاقًا من ثقافته الرصينة وشخصيته المتشعبة الاهتمامات. وهو، وإن اعترف بأن للمسرح "مقاصد أخلاقية تهذيبية"، فإنه يؤكد عدم تفاعله معه قائلًا : "ذلك ليس هو ذوقنا، بل لا نستفيد منه لعدم معرفتنا جميعًا بلغة أهله وعدم ملاءمته لمألوفتنا وحركاتنا". ويأخذ على المسرح اشتماله بذيء الكلام، ومهيجات شبق النفس للخنا وارتكاب الفواحش (…)، فلو خلا عن هذه الأمور لكان من أحسن المدارس التهذيبية في نظره".  

 

"لحظات" الصورة

للصورة الإسلامية "لحظاتها"، بل أكثر من لحظة واحدة. واللحظة تعني ما يتوصل الدارس إلى الانتباه إليه بوصفه "ظاهرة" في مسار التاريخ. وللصورة الإسلامية سبع لحظات (على ما انتهيتُ إلى التبين والبناء) :

- اللحظة القرآنية؛

- اللحظة المحمدية، بين أفعاله وأحاديثه؛

- اللحظة الأموية (المروانية)؛

- اللحظة الفقهية (بين سنية وشيعية)؛

- اللحظة العثمانية؛

- اللحظة الاجتهادية (العربية) المتأخرة؛

- اللحظة الحالية، بين فقهية ورسمية و"شعبية" وتدبيرية.

 

ما انتهيتُ إلى التأكد  منه، إثر مراجعة وفحص هذه اللحظات السبع في تاريخ الصورة الإسلامية، يتعين في عدد من الخلاصات :

إن محاربة الديانة الإسلامية، عند نشأتها، للصورة الجاهلية الوثنية، بين تماثيل وأنصاب وصور مرسومة وغيرها، ألقى بظلاله على الصورة في التاريخ الإسلامي، وجعلَها، تبعًا للظروف والاجتهادات، عرضة لمنع أو شبهة، من دون تمييز أحيانًا.

هذه المحاربة للصورة الوثنية جعلت محمدًا يحطم التماثيل والأنصاب، ويمسح الصور في مكة، ما كان له أثرُه المباشر على الديانة الجديدة، وهو أن الصورة لم تكن في عداد البناء المادي والرمزي للأمكنة الدينية، وللطقوس فيها.

عنى هذا أن الصورة، ولا سيما الفنية منها، لم تكن محرَّمة، ولا ممنوعة، بل كانت ذات مكانة دنيا، بالمقارنة مع مكانة الأدب بأنواعه المختلفة، وهو ما ارتسمَ في صناعة صورة إسلامية، في الزينة عمومًا، ذات محددات مقيِّدَة لها.

هذا ما انتظمَ في مدونة فقهية "قيَّدتْ" استعمال الصورة، بين إنتاجها واقتنائها، ولم تفارق الأساس الوثني في محاربة الصورة، ولا سيما الصورة "الحية" فيها، وجعل التعامل ينحاز إلى تغليب الشكل واللون والخط، على الصورة الآدمية، في إنتاجات الصورة الفنية وتجلياتها.

هذه الخيارات والأفضليات أنتجتْ أنواعًا وأنواعًا من الصورة الفنية : في المسجد، والقصر، والبيت، والمخطوط، واللباس، والأواني المختلفة، ولكنها بقيت في نطاق "الصُّنع" و"الصُّنَاع" من دون أـن تبلغ خطاب "الأدب" والخبر.

غير أن الصورة الفنية لم تبقَ جامدة في هذا التاريخ الإسلامي الطويل والممتد، بل تبدلت، وتميزت في إنتاجات مرغوبة، لا سيما في "آداب الحكم" (كما جرت تسميتها في الحقبة العثمانية)، كما أن تغييرات أصابتْها بفعل مؤثرات خارجية عليها، ولا سيما إثر قيام السلطنة العثمانية، لحسابات دبلوماسية في االمقام الأول. هذا ما جعل الصورة الفنية، في إنتاجاتها وأساليبها الأوروبية، تحط في "السرايا" العثمانية، ودور بعض الأمراء و"الأفندية"، ثم في ولايات وقصور عربية، إلى جانب إنتاجات الصورة الإسلامية المتقادمة.

هكذا كانت للصورة الإسلامية صيغُها الفنية والمادية، المطلوبة والمُحتفى بها، وباتت تتعايش وتتأثر مع الصورة الفنية الأوروبية منذ بدايات القرن السادس عشر، من دون انقطاع، بل مع غلبة متزايدة لقيمة الصورة الفنية الأوروبية، قبل أن تصبح هذه صورة الفن، بل نموذجه المحتذى في القرن العشرين.

هذه حياة علنية ومستورة للصورة الفنية في التاريخ الإسلامي، بل هي حياة سلمية وحربية كذلك، إذا جاز القول. فقد تأكد الباحث من أن صراعًا حول الصورة برز في هذا التاريخ، لا سيما في عهود التوتر والحرب، كما في محاولات "فتح" القسطنطينية في الحقبة الأموية بشكل خاص. بل يدافع الباحث عن فكرة مفادها أن بعض محددات الموقف الفقهي الإسلامي من الصورة تعين وتأكد منذ مساعي "الفتح" هذه.

وجب القول إن المدونة الفقهية لم تميز، في فتاويها وتفسيراتها، بين سند القرآن، وسند الأحاديث النبوية، والإنتاجات المختلفة للصورة الفنية، بل خلطتْ، ولم تميز بين المعنى الرباني لـ"الصورة" و"المصور" و"التصوير" في الآيات القرآنية الأربع، وبين إنتاجات الصورة الفنية لغير العبادة الوثنية.

هذه المدونة الفقهية تبقى محدودة، مع ذلك، ولم تتوسع بعض الشيء إلا في بدايات القرن العشرين، حيث بدت الحاجة أكيدة للوقوف إزاء مدِّ الصورة الأوروبية، بأنواعها الفنية وغير الفنية في التداول، ولا سيما مع بلوغ السلع الأوروبية، المعززة بالصورة، الأسواق العربية.

"الضرورات تبرر المحظورات" :  هذا المبدأ الفقهي عادت إليه الكثير من الفتاوى، منذ مطالع القرن العشرين، لتبرير ظهور أي صورة، ولا سيما صورة المرأة، في الوثائق الثبوتية الرسمية، ولا سيما في جواز السفر. فالصورة باتت لازمة لتأكيد الهوية، وجواز مرور الفرد من دولة إلى أخرى، فضلًا عن بروز الصورة في كاميرا التصوير الفوتوغرافي وفي الجريدة، والكتاب، قبل السينما والتلفزيون والإعلان وأوراق العملة النقدية والدعاية الانتخابية والتجارية وغيرها. 

هذه التبدلات التي أصابت الصورة الفنية، في القرن العشرين، أباحت حضورها، والحاجة إليها، وعززت إنتاجها واقتناءها، ما جعل الحكومات العربية، بما فيها الخليجية (الممانعة أو المترددة سابقًا)، تُقدم على حفظها، وشرائها، بما فيها في المزادات العالمية، فضلًا عن تشكيل مجموعات لها عند كبار المقتنين، وبناء متاحف لها بدعوى الحفاظ على الإرث الوطني والحضاري.

سيرة الصورة –خصوصًا الفنية- في المجتمعات العربية المختلفة لم تعد سرية أو مكتومة، إلا أنها بقيت (إذا جاز القول) ملازمة للحُكم، للخاصَّة، من دون أن تبلغ ثقافة المجتمع، إلا في شاشة التلفزيون والسينما والصورة الفوتوغرافية. فالصورة لا تحظى بثقافة فنية، تروجها وتعممها وتنشر ذائقتها، في المدرسة، في البيت، في الكتاب، في الاعتقادات والسلوكات المصاحبة لها.

غير أن هذه السيرة عانت، منذ السبعينيات من القرن الماضي، من ارتدادات قوية تمثل في وضع الصورة موضع شك ومحاربة، ما جعلها "صورة محجبة"، بدليل ما أصاب أعدادًا كبيرة من الأفلام السابقة، فجرى حذف القبلات والمشاهد "الساخنة" منها، كما جرى تطبيق هذا المنع في الأفلام المنتجة في العقود الخمس الأخيرة، بالتوازي مع شيوع "الزي الإسلامي" ومترتباته في الظهور والحجب.

هذا ما يضيق حكمًا نطاق الصورة، وما يحدد أوجه استعمالها وظهورها وإنتاجها؛ وهو ما تأكد في تراجع تعليم الفن احيانًا، أو في هجرة مزيدة للفناني العرب إلى خارج البلدان العربية. وهو "ارتدادٌ" عن سابقٍ، يعود إلى اختلال العلاقة، لا سيما الاجتماعية، بين حكومات عربية وتيارات "مغالية" في إسلامها : الحكومات ذات الضعف في شرعية تمثيلها، تنصاع إلى "شعبوية" هذه التيارات، وإلى نواهيها في الهيئة والظهور، ما يقيم الصورة في أوضاع مقيدة لها، ويجعل منها : صورة محجبة.

هذه الردة، التي تتخفى خلف الصورة بدعاوى اجتماعية وأخلاقية، لا تعدو كونها ردة سياسية ومدنية، تجعل هذه المجتمعات بمناى عن عالم تفاقم الصورة الذي نشهده، في صورة متزايدة، في العقود الأخيرة. بل تجعل هذه الردةُ الفردَ محرومًا من إقباله الحر على الفنون، من متعته بالصورة على أنواعها، من تنمية قوى التخيل والإبداع لديه، ما يجعله قاصرًا في بلوغ إنسانيته المتجددة.

 

بين التثقيف والمتعة

تبدو الصورة الفنية، لدى الشيخين الإصلاحيين، أمثولة تثقيفية، مثل وسائل إيضاح تربوية في صفوف المدرسة. أما المتعة، فلا وجود لها، لا مبرر لها، ولا حاجة إليها. هي مما لا يُعترف بلزومه في ثقافة الإنسان، في سعادته. وهذا موقف قديم، أو له مرتكزات سابقة، وربما راسخة.

هذا ما يجعلني أتوقف، بل أتوسع، لفحص علاقة الدين الإسلامي بالشعر العربي في أيام الرسول : لم يدم طويلًا النزاع بينهما في أيام الدعوة، فأسقطَ تهجم الشعراء على الدين الجديد، ورسولِه، أي موقف من الهائمين في وادي عبقر. وعنى هذا –ما لم يتمّْ درسه- عدم ظهور أدب، ولا شعر، بمقتضى الرسالة الجديدة. هذا ما جعل الشعر يستعيد إرثه الثقافي والبلاغي الجاهلي من دون أي حرج، من أي نوع كان. هذا ما راق لحاجات البلاط، أو للتباري والموازنة بين قضاة البلاغة في مجالسهم ومناظراتهم، لكنه وضع حدودًا لتذوق الشعر. هذا ما ظهرت معالم النزاع فيه في العصر العباسي الأول مع "المحدَثِين" : بين المدافعين عن بلاغية القصيدة التي تشترط الصحة في المعاني، مقابل "الغرابة" في التركيب مع أبي تمام. هذا ما نجد صورًا تمثيلية عنه في موقف أبي نواس من الوقوف على الأطلال، والاستغناء عنه، لصالح علاقة حرة مع الحياة، التي تصبح علامة الشعر. وهو ما تجلى أيضًا في النزاع بين الحفاظ على "فحولة" القصيدة، وبين النزوع إلى "البديع" في العصر عينه.

ما تتحدث عنه العربية في المتعة لا نجده في خطاب النقد والتفلسف، اذ لم يكن السياج القديم والتعريفي باي صنيع ثقافي او ادبي يسمح بتجاوز ما يبقى من التدين في ضبط الناس، وهو سياج الاخلاق، ومؤداه التأديب، وهو من الأدب. 

نجد، عند الجرجاني، ما يجيز "التلذذ" في منظر عجيب، وفي اخبار المغنين والمغنيات ما يبعث على الطرب، فيما يبقى الإعجاز -وإن لا يبلغه بشرٌ- مأثرة تدعو إلى الإدهاش. الصورة باتت متاحة، بل متفاقمة الحضور، في عالم يتغلب فيه النظر البصري على النظر الادراكي.  

ليس للصورة أن تمتنع عن تصوير ما تشاء، مثلما العلم لا يمتنع عن تقدمه، حيث يشاء، وكيفما يشاء.
لا يزال هناك رجعٌ بعيدٌ من منع الصورة وامتناعها، في عالم اليوم، في هذه البلاد.
هذا يتناول الظهور والإظهار : إظهار الوجه أو الجسد برمته، كما لو أنه يضر بقوانين عامة، مثل عدم التعدي على الغير. 

هذه العلانية مهددة، موضوع شبهة، كما لو أنها المدينة الإسلامية القديمة، مدينة التحصن والاحتماء (كما وصفَها ابن خلدون)، فيما جنح الفرد الى أن يحمي كيانه بفضل احترازات أو ممنوعات يجيزها القانون الموضوع بعد جدل ونقاش وتصويت. 

هذا لا يتأتى صراحة من الدين، بل من مواضعات أخلاقية، تختصر في عدم إثارة الرجل.
أما في الصورة، فليس هناك من تعدٍّ يصيب الدين أو الاخلاق.

   

يتبين، في قول رجلَي الدين (أعلاه)، الحديث عن "الفائدة" في السماح بالصورة، وفي فوائدها الاجتماعية والتربوية. هذا ما يمكن التوسع فيه عند الحديث عن "فائدة" الرواية كذلك، ودورها التهذيبي، حيث  نجد محمد عبده يبرر ذيوعها في الكتابة والقراءة، فيما كان مصريون يتمنعون عن الاقبال عليها. وهذا يعني أن الخلافات، سواء في قبول الصورة أو الرواية (ويمكن إضافة المسرحية إلى ذلك) لا تعود إلى أسباب فقهية، ولا جمالية، بل الى أسباب سياسية ذات لبوسات اجتماعية ودينية. 

هذا يعني -أيًّا كانت أسانيده ومبرراته- لزوم الضبط الاجتماعي والأخلاقي والديني وغيره لمجموع المسلمين، من دون البحث، الصريح، في الفقه أو الشريعة أو  الدستور أو القوانين. هذه مساعٍ مواربة، "شعبية"، للتمكن من الفرد، بذريعة الدين من دون وضوح أو مسؤولية، بما فيها التذاذُه -فضلا عن فائدته- بالفن. 


الفن بين الفائدة واللذة

يكتب كنط : "كل فائدة تفسد حكم التذوق".

فنية الصورة لم تعد ماورائية القيمة، أو المحاكاةِ والتمثيلِ، بل ثقافية وجمالية. الصورة مثلها مثل غيرها من إنتاجات التخيل ليست سابقة، بل تخاتل في جريانها الحر، في إشادة عمارتها الثقافية، في تقديم حساسيتها الجمالية. 

هذا ما يفاجئ العين بما لم ترَ، ويستثير في مداركها وانتباهاتها البصرية ما يبعث على العجب.
والعجب، والدهشة، والانفعال تعبيرات ما يبعث على التلذذ. 

يمكن القول –بعد هذا الكلام- إن الصورة محجَبة في أحوالنا : ظاهرة ومخفية في آن؛ مرغوبة ولكن في علاقة "سرية" : أقرب إلى العشيقة، منها إلى الشرعية. صورة عرضة للتجاذب، على أن فيها عناصر للاستعمال، للتوظيف، في صراعات تتعداها تمامًا.

نحجِّب الصورة، فيما يتفاقم حضورها في العالم. نحجِّبها، فيما تزداد الرغبة فيها، بين تملكها والتفكير فيها. فالمتعة الجالبة لها تعبيرٌ حر خارج أي تنميط، أو حجب للصورة. فالمتعة، بطبيعتها، ليست مما ينظَّم، مما يقعَّد، إذ هي تلقائية، متفلتة، ما يبلغ الهوس في التمثل، في الاستحواذ. لهذا يعارض الطلب على التمتع ما ينشئه التدين، أو ما يفرضه. أشبه بمواجهة صريحة بين حرية وقيود.

لعل من تمثلات التدين وتجلياته، السعي من قبل مجموعات "مغالية"، دموية، لفرض انتظام اجتماعي يستهدفنا كمجوع، لا كأفراد، لا في حقوقنا، بل في ما يعتبرون حقوق الإله فينا وعلينا.

هذا الفهم للتدين يعود بنا إلى فقه جمعي، من دون أن يكون إجماعيًّا إلا بالفرض والإكراه؛ يحيلنا إلى كتل من دون إرادات أو رغبات. وهو ما لا يناسب واقع المجتمعات الحالية، حيث باتت مفتوحة، متفاعلة، ولا سيما بالصورة. فالتمتع بالصورة بات مطلوبًا، قائمًا، حتى إن "الزي الإسلامي" نفسه بات يتشكل ويتلون لإغراءات العين، لا للحشمة العمياء.

حجبُ الصورة، أو تبعيد علاقتنا بها، لا يعدو كونه تبعيدًا لصلاتنا بأنفسنا، بغيرنا، بما يحيط بنا. فالمتعة شأن فردي، ما يصدر عن النزوع، ما يطلق قوى فينا، بين التواصل والالتذاذ. فليس لأحد أن يكون حارس المتعة، أو فقيهها. فالمتعة تقع في العلاقة بين المتلقي والعمل الفني، بين تذوقه وتملكه. وهي ما لا يدخل في النطاق الفردي، الذي للقوانين أن تحرسه، أن تضمن قيامه من دون تعرض له، أو تعريض به. 

 

(محاضرة في "معهد الآداب الشرقية"، جامعة القديس يوسف، 8-12-2022).