في مجموعته الشعريّة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2022، بعنوان "مَوَجان"، يمارس الشاعر شربل داغر الحفر في طبقات ذاكرته الشخصية، وزمنه في تقدّمه، متابعًا تحوّلات الجسد، مع تحوّلات المدينة، متمشّيًا في "شوارع القصيدة"، يلتقط المعاني قبل أوان قطافها، كعناقيد الحصرم في الدالية "يلسع فيما يلمع في إفاقة الأصابع على ما لا تحسن الإتيان به". وفي القسم الأخير "قصيدة: نافذة ومرآة"، من ثمانية نصوص، بين شعرية وأخرى يصنّفها الشاعر أنها تقع في برزخ بين الشعر والخاطرة، فيها حفر بماضيه الكتابي وتكوّنه الإبداعي، وتفكّرٌ في كتابته، يقابل فيه حالته الكتابية بلفظ معجمي استخدمه في كتابه ترانزيت "كِينة"، يشير إلى "شرط الإنسان في وجوده"، فأحياه من خلال "قوّته الكامنة". هذا التعيّن في الموقع، أساس في التفلسف، عند هايدغر وقبله، كما يقول، وهذا ما دفعه في شعره لأن يجعل من اللحظة انوجادًا في مكان ما.

 

في شوارع القصيدة

في حوار صحفي يقول عن شعره: "له مسالك خافية تتعدّاني، وإن تشملني في نهاية القصيدة، فالقصيدة قد تنطلق من لحظة ما، من لفظ أحيانًا، فأجدني أتبعها فيما أتخيّر ميلانًا ما، سواء للجملة أو لتدافع القصيدة". لربّما يمكن مقابلة العنوان "مَوَجان" بهذا التعريف، فالموج يعني من ضمن معانيه "المَيْل" والمَوَجان يمكن مقابلته بـ "مَيَلان"، ففي قصيدته "تمشيت بعد ظهر القصيدة"، تحيل جملة "بعد الظهر" إلى الإغفاءة الطافية، بما يمكن أن نسمّيه "مَوَجان" بين اليقظة والنوم، أما الزمن فهو القصيدة، وكأن الشاعر يضبط زمنه عليها، فيتمشّى في شوارعها لتبسطَ أمامه الجدران وتستدعي مخيلته تلاعب الصور بهذا التوتر "بين الطلب على الشيء، والتردّد في فتح مهاوي الغياب"، هذا التدفق الرقراق مثل نهر بين البداية والمشتهى، تحمله مفردات الحركة والتنقّل: يعود، تمشّيتُ، ينبسط، يتقدّم، مسرّع، إبطاء، السائر، الخطوة، وصول، اندفاعة... تتوالف لتصنع ذلك المَوَجان.

لشغفه باللغة مساحة واسعة في قصائده: "كان يلهو باللغة، بل بتمدّد فيها ويقوم، بثقة الليّن، والطري، والعنيف، والمتراقص، والمتدافع، من حركات الإقبال عليها، في عجينتها، في خبزها الوهّاج"، ويناديها بشغف وحميميّة: "أيتها اللغة، يا رفيقة قيلولتي من دون نوم ... دعيني أكُنْ حيث تكونين". وهو في علاقته العاطفية معها، تراه يلاعب الألفاظ: "يتطاير في المدى المشدود بيني وبينها رذاذٌ مثل (فقش) الموج". فكيف يكون للموج فقشٌ، والفقش يكون لغلاف هشّ يتهشّم بنقرة فيسيل ما بداخله، بينما الموج مفتوح على الفراغ بلا حدود؟ لكنها تبدو صورة جميلة، معبّرة، مبتكرة.

تراه في ضجيج الحياة ككائن في عزلته، غارق في تفاصيل عناصرها، "تراني من دوني في الدبيب لما يجمعني بغيري، من دون أن أكون أي واحدٍ منهم". بينما في قصيدة "ما قاله القميص لحبل الغسيل"، يؤكّد بالالتباس نفسه، بين الأنثى واللغة، على ما يموج في داخله من موسيقاها وقوارير عطرها، وليس كما غيره "يزن الكلمات في موازينها"، لذلك يرمي نصيحته: "لا تفحصْ، لا تتفقّدْ، القميص شرب من مائها، وحبل القصيدة طويل".

وهو في المَوَجان بين "الحين والحنين" و"هنا والآن"، يرسم العالم كما هو افتراض من حيث تحقّقه، ففي قصيدة "وجدوا، في الركام، أسنانًا حليبية" يرى إلى ما لحق في المدينة بعد انفجار المرفأ، وكأنه الطفل الذي كان عندما سقطت أسنانه اللبنية، بينما "أسناني الخلّبية، تقضم بإفراط، إذ تتمرّن، في خفّة القراءة، على تناول الحروف مثل ثمار فوق أغصان السطور" فهذا الدمار أتى على ذاكرة الطفولة أيضًا، وأمّا ما لا يطمره الركام فهو: "يستلقي، يغفو، من دون قلق، في امتدادات الكلام الممتد بين العين واللسان، في انتظارات القصيدة" هي جذوة الحياة تتوهج إذ تلامسها نسائم القصيدة لتنهض من جديد غير آبهة بهواء ملوّث، فالصبي "يدرج في القصيدة من غير كمّامة أو مجاز"، القصيدة التي تحمل بصمتها الفريدة، لا تشبه غير نفسها، في بياض القلب الذي يغوص إليه "أبيض قلبي لا حبر له، ولا بحر لقافيته... له نثر يتشعّب في تهدّجات الصوت، أبيض قلبي يفتح سطوره لسواد بيروت".

 

جماليّة الاحتمالات

تتكرّر كلمة الحظّ في قصائده، مثلما لو أنّه يؤكّد على اكتناز المعاني وأوجه الحياة في الشعر، في احتمالية تشكّلها وتكوينها وسورياليّتها، "فيتدبّر خيطانًا قوية لطائرة ورقية: يعلو بها ويشد على خيطانها كمن بات أكيدًا في مشاغلة الحظ". هذا التكرار يحيلنا أيضًا إلى مَوَجان آخر، عدم اليقين "دعني أضرب موعدًا مع الحظ، وأقامر في ما لا يعود لي"، كما مفردة لعلّ، بتكرارها في جمل وقصائد عديدة، فتلقينا في تلك المساحة الضبابية نموج بين المأمول والمستحيل، "لعلّنا في وجهَيْ استعارة يرتعشان... من دون أن يبرحا مكانيهما"، الاستعارة التي تتكرّر في النصوص أيضًا.

في القسم الذي يحمل عنوان: "وداد عن بعد"، يمكن للبعد أن يحيل الخيال، مرفوعًا على خيمة اللغة، إلى فنّان يمدّ أسرّة الشهوة بما تحتاج من شراشف المتع لتبدو مواقعة القصيدة ظلَّ مواقعة الحبيبة، بكل ذاك السموّ والرفعة في لقاء الجسد بالجسد، "أوّل شجرة تصادفينها في الطريق بعد خروجك الصباحي: المسيها... هي يدي، أكتب أحيانًا لأنني أشتهيكِ". في قصائد هذا القسم نرى انزياحات مخاتلة، محبوكة بشغف القصيدة واشتهاء اللغة، وجمالية الاحتمال، كما في قصيدة "لعلّي في الرنين"، التي نكاد نسمع فيها صوت الكمنجات تئنّ بالرغبة، أو في قصيدة "كتابها مفتوح"، وفيها يرمينا الشاعر، كعادته، في ذلك الالتباس المثير بين الأنثى والقصيدة، فترى اجتماع الحسيّة العالية مع التسامي النبيل في الصور التي يشكّلها، "النازل أو الطالع، بين الثديين، صاريةٌ لشراع، ينشر ما يغوص في لججه، يتخاصر مع الهواء ويراقص الموج، في فقشه الفوّار".

الموسيقى تشغل نصوصه وتتصاعد ألحان خفيّة من إيقاعها، مع صور تتضافر مع بعضها بعضًا لتشكّل نصوصًا سردية، ما يستدعي السيناريو السينمائي، كما في معظم نصوص القسم الأول "أيها الموت، يا جاري الأليف"، إذ تبدو اللقطات الشعرية كما لو كانت لقطات كاميرا، يشبكها خيط خفي موغل في عمق النصوص، وما يغلب في شعره اللقطات الخارجية، التي تنظر إلى العالم من خلال عدسته الداخلية، فقصيدة "قبل الموت بقليل" نصّ يفتح في مقدمته على المشهدية السينمائية، على الحركة، ترصدها كاميرا خلف عدستها مصوّر يسبر غور النصّ، ليفضي هذا المشهد إلى أسئلة الوجود الفلسفية، الحياة/ الموت. "ليس للموت ما يعد به، ليس له غير ما يستردّه من ديون الحياة المستحقة".

كذلك المسرح، كما في "عبور الكلام" و"-لو تجلس، =لا سأمشي"، النص الحواري بين الذات الكاتبة والآخر فيها "هو"، يذكّرنا بروايته "وصيّة هابيل".

نصوص شعريّة "تموج" في فضاء القصيدة، عامرة بألفاظ الحركة والصوت، وعناصر الطبيعة والصور من دون حضور لمفردات اللون، ربما لذلك قدّم الفنّان "وليد قيسي" رسومه بالأسود، بقلم الفحم، فبدت كما لو أنها صدى القصائد، كخطوطٍ تتشكّل في عتمة الأحلام، تبدو مثل خربشات طفل يمسك قلمه الرصاص أول ما يستيقظ ويبدأ برسم أحلامه ورؤاه، وأحيانًا كوابيسه ومخاوفه، من يستطيع أن يرسم أحلام طفل غير فنّان مشى في شوارع القصيدة، يتعقّب الشاعر من دون أن يراه، يلتقط ما يتساقط منه في مراتع الطفولة إذ يزورها في التذكّر ويزورها في القصيدة؟

(مجلة "الفيصل"، السعودية، أيلول-سبتمبر 2022).