آراء

لا شكّ في أن كتاب "تواشجات الشعري والفني في الشّعر العربي الحديث : شربل داغر أنموذجًا"، للباحثة حورية الخمليشي، والصادر عن منشورات الاختلاف، ودار الأمان، ودار ضفاف (2022)، يتعين بوصفه عملًا مفيدًا لجهة أن المؤلفات النقدية التي تتخذّ من الظواهر الأدبية (الأنواع والأشكال والثيمات والحركات والتفاعلات النصية) موضوعًا للدّرس والبحث من منظورات جديدة ذات أهمية منهجية كبيرة، وأصيلًا؛ لأنّه عندما يركّز على قراءة التواشجات بين الشّعري والفني في الشعر العربي الحديث، يملأ ما يشبه الخانة الفارغة؛ فصاحبته تطمح إلى تقديم دراسة نقدية منهجية قد تكون الأولى تتناول العلائق المعقدة والمنتجة بين الشّعر والفن.

قبل الإضاءة على مضامين الكتاب، والكشف عن القضايا التي يثيرها في ما يخصّ المتن الشعري، والفنون المختلفة التي يتفاعل معها، من المهم القول إن حورية الخمليشي تعدّ من الباحثات المعنيات بنقد الشعر العربي الحديث، ذلك أن اهتماماتها البحثية تتركّز حول الشعر العربي الحديث والمعاصر، وحول الحداثة الشعرية والفنية، والعلائق بين الشّعر والفن والفلسفة. ومن أعمالها النقدية ذات القيمة المرجعية في حقلها: "الشعر المنثور والتحديث الشعري" (2010)، "وترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير" (2010، "الكتابة والأجناس: شعرية الانفتاح في الشعر العربي الحديث" (2014)، و"الشعر وأنسنة العالم" (2018)، و"الشعر والغناء وترسيخ الثقافة الكونية" (2018). وصدر لها في الأردن هذا العام (2023) كتاب: "نهر الهواء" للفنان وليد رشيد القيسي. ومن المؤكّد أن هذه الأعمال تعدّ خير شاهد على المسارات التي تفتحها هذه الباحثة إلى منافذ جديدة لقراءة الشعر العربي الحديث والمعاصر، مسارات يظلّ النقد الشعري في حاجة إليها إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الجوانب التي يهتمّ بها النقد الشعري هي أشدّ ارتباطًا بما هو فني، أو موضوعاتي منها، بما هو من صميم الثقافة البصرية.

منذ مقدمة كتاب "التواشجات"، تفصح الباحثة عن طموحها إلى تقديم قراءة للشعر العربي تصبو لأن تكون جديدة ومختلفة. فإذا كان بعد الجدّة يحيل على الأصالة التي هي جوهر العمل، ومكمن قوته وإضافته وإنتاجيته، فإن الاختلاف هو ما يمنحه الاستمرارية، أو "الحياة اللاحقة"، وفقًا للمفكّر الألماني فالتر بنيامين في سياق تنظيره للترجمة، وللحياة اللاحقة للعمل الأدبي. لقد ميز الناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه س/ ز (S/Z) بين ضربين من النصوص: "نص القراءة"، و"نص الكتابة". فإذا كانت نصوص القراءة تكشف عن محتواها بمجرد القراءة الأولى، فإن نصوص الكتابة يتعذر اختزالها اعتمادًا على قراءة واحدة؛ فهي، على الدوام، تفتح شهية القارئ لولوج عوالمها المسكونة بالدلالات اللانهائية، وفي كلّ قراءة جديدة يتقدّم نصّ الكتابة بوصفه أكثر سخاء وكرمًا. هذا النص الذي سمّاه بارت نصّ الكتابة يشكّل الاختلاف جوهره. فهو نص لا يشبه غيره، لأنه متفرد، وهذا ما يجعله يمضي في حياته الخاصّة، ويخلق لدى المتلقي دهشة السّؤال، ومتعة السّفر الدائم لاكتشاف مجهولاته وعوالمه اللامحدودة. وبالاستناد إلى هذا التحديد، يبدو لنا أن هذه الدراسة تتميز هي الأخرى بالاختلاف، سواء في طموحها إلى التميز بين الأعمال النقدية المنجزة حول الشعر العربي الحديث، أو في مفهومها عن مغامرة الشعر العربي الجمالية والفكرية، ورغبتها في استكشاف الدروب الفنية التي تتأبّى عن القراءة الناجزة، أو المكتملة. لنقل إن الباحثة تشق طريقًا جديدًا تتقصّى من خلاله المتن الشعري العربي الحديث من منفذ العلائق التي يقيمها مع الفنون المختلفة والثقافة البصرية. وفي هذا السياق، تفرض بعض الأسئلة نفسها: أين تكمن، إذًا، أصالة هذه الدراسة؟ وما هي المقترحات النقدية التي تبلورها الباحثة للتفكير في الشعر العربي الحديث؟ وما طبيعة المعرفة الجديدة التي يسعى الكتاب إلى بنائها؟
للاقتراب من هذه الأسئلة، نعتقد أن من الأهمية بمكان وضع القارئ في صورة القضايا النصية والجمالية التي اهتمت الباحثة بدرسها. فقد وزعت محتويات مؤلفها على أربعة أقسام، في القسم الأول اهتمت بالبناء النظري للشعرية الحديثة مركزة على اللغة الشعرية بين الشعر والنثر، وإشكالية مفهوم الفن في السياق العربي، وعلاقة التجاور بين الشعر والفنون المختلفة، كالرسم والمسرح والموسيقى والسينما، فضلا عن الحوار المتعدد بين الشعر والفن، وتجلياته في عدد من التجارب الشعرية العربية الرائدة لكل من أدونيس، ومحمود درويش، ومحمد بنيس، والمنصف الوهايبي. أما في القسم الثاني، فقد عنيت الخمليشي ببحث القصيدة الشعرية وبناء الرؤيا في المتن الشعري للشاعر اللبناني شربل داغر. تتبعت الباحثة الممارسة النصية عند هذا الشاعر، مركزة على اللغة الشعرية، وشعرية المشي والتعالق الفكري، وانفتاح القصيدة على الفلسفة، فضلًا عن سعيها إلى تقديم قراءة مختلفة للاستقبال المتعدد الذي شكّل المتن الشعري لشربل داغر موضوعًا له؛ كقراءة محمد الولي لقصيدة "القصيدة لمن يشتهيها"، وأحمد عيدون الذي لحّن هذه القصيدة، ومجيدة بنكيرات التي نهضت بتقديمها في عمل مسرحي. ورأت الباحثة التجربة الشعرية لشربل داغر مثالًا إبداعيًا قويًا جديرًا بالدرس والبحث، فهي تجربة تنفتح على المدهش والمختلف، وتطرح إشكالية الحدود بين الأجناس الأدبية، فيما يتجسّد فيها التواشج الخلاق بين الشعر والفن بشكل يدفع خيال المتلقي إلى العمل من أجل بناء المعرفة بالشعر. كما أنها تجربة لفتت أنظار الفنانين إليها، فقاربوها تشكيليًا "من خلال ما قدّموه من أعمال فنية مصاحبة لشعره، ومن كتب فنية مشتركة، صاحبت فيها قصيدة داغر عدد من الرسومات والأعمال" (الكتاب، ص 432). أما في القسم الثالث، فقد حرصت الباحثة على القراءة البصرية لأعمال فنانين تشكيليين، من طراز ضياء العزاوي، إيتيل عدنان، محمد المليحي، نجا المهداوي، محمد القاسمي، وليد رشيد القيسي، محمد العامري، وفيصل السمرة. كما اهتمت في هذا القسم بحوارات مع أدباء وشعراء تجسّد أعمالهم الشعرية والنقدية هذا التواشج بين الشعر والفن، مثل شربل داغر، محمد بنيس، المنصف الوهايبي، ومحمد الولي. وفي القسم الرابع، ركزت الباحثة على تفاعل الشعر والفن من منظور الفنانين، من خلال حوارات أجرتها مع فنانين من طراز ضياء العزاوي، محمد المليحي، نجا المهداوي، وجدان الهاشمي، جمال عبد الرحيم، غادة جمال، وليد رشيد القيسي، سيمون فتال، أحمد عيدون، وسلمى بكار.

يتبيّن من خلال هذا الجمع في صلب الدراسة العلمية بين التحليل النقدي، من جهة، الذي ينصبّ على الظاهرة الشعرية والثقافة البصرية الخلاقة، والمحاورة من جهة ثانية، أن الباحثة لا تكتفي في بناء المعرفة بالعلائق بين الشعري والفني في الشعر العربي بما تقدّمه التجارب الشعرية في حدّ ذاتها كظواهر نصية تخضع للتقصّي والبحث والمساءلة النقدية، بل تستند في ذلك أيضًا إلى الحوار مع شعراء يمثلون هذا التوجّه، بل يتعينون بوصفهم رواده في المرحلة المعاصرة، وهذا يدلل على الحداثة التي يتسم بها الوعي النقدي لدى الباحثة، ومدى إدراكها قوة الدفع التي مثلتها وما تزال تأملات الكتاب والمبدعين منذ القرن التاسع عشر في ما يخصّ المعرفة بالأدب. ولعل تجربة الرومانسيين الألمان في مجلة الأثنيوم تعدّ رائدة في هذا الاتجاه، فضلًا عما قدّمه شعراء من إضاءات تعدّ محورية في النظرية الشعرية الحديثة، مثل مالارميه، بول فاليري، ت. س. إليوت، ورامبو، وآخرين.

لتلمس الأهمية النقدية والمنهجية التي يكتسيها هذا العمل، ينبغي الاهتمام بمجموعة من الكلمات المفتاحية التي تضمنتها مقدّمة الكاتبة، وهي في مثابة مداخل مهمّة تستمدّ سلطتها ونفوذها من قدرتها على الإفصاح عن المقصدية التي تحرّك هذا المؤلف، لذلك يتعين أخذها في الاعتبار لفهم المقترحات التي تبلورها الناقدة والأبعاد التي تتقصّد إلى فتحها من خلال القراءة الموسّعة. تصف الخمليشي دراستها للشعر العربي الحديث بالمغامرة، ونحن نعلم ما تنطوي عليه كلّ مغامرة من نشوة النصر، أو أزمة الإخفاق. تنطوي المغامرة دائمًا على صعوبات كبيرة، فهي منعقد الآمال والأهوال. لكأن الباحثة تريد أن تنبّه القارئ منذ البداية إلى أن الأمر لا يتعلّق بقراءة مثل سائر القراءات التي شكّل الشعر العربي موضوعًا لها، وإنما بقراءة تتسم بميسم المغامرة. فما يجعل من هذه الدراسة مغامرة هو الأرض التي تتحرّك عليها، أرض الشعر العربي الحديث الذي جعلت منه الحداثة ملتقى عدد من التعبيرات والفنون والخطابات والرموز والأشكال التي يتأكد معها أن قدر الأدب هو أن ينهل من معين الآداب المتحققة. لا شيء في مجال الأدب يحدث من فراغ، كما يقول الكاتب الكوبي ليوناردو بادورا؛ كل إنتاج أدبي يتخلق من نصوص أخرى، وأعمال أخرى، وعبر هذا التفاعل النصي يشق العمل طريقه المتفرّد نحو القراء، وهذا ما يشكّل جوهر الإنتاجية التي يتميز بها. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن الاهتداء إلى قراءة مختلفة للشعر العربي، وقد منحته الحداثة هذه السّمات من الجمال والتعقيد واللغزية والتطلع إلى المطلق واللانهائي؟

 

عندما تأخذ الباحثة على عاتقها مهمة إنجاز هذه القراءة التي تتخذ من انفتاح الشعر على الفن موضوعًا لها، من المعروف أن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب دراسة فنين مختلفين في تفاعلهما الخلاق، و"هو ما يفتح السؤال على التفاعل بين اللغوي والبصري، وعلى الصورة الفنية بتشكلاتها المتنوعة في السينما والمسرح واللوحة التشكيلية وغيرها" (الكتاب، ص 45). إن الناقدة عندما تؤسّس لهذا الميثاق الواضح مع القارئ المحتمل، فإنها تعرف أنها تمتلك من الأدوات النظرية والنقدية الملائمة، ومن نقط الارتكاز القوية، ما يساعدها على النهوض بهذه المهمة الشاقة. فعلاقتها بالشعر لم تبدأ من هذا الكتاب، بل هي علاقة قديمة ساعدتها على أن تخبر عوالم الشعر، وأن تحتك بأسئلته وقضاياه ورهاناته في أعمالها النقدية السابقة، من قبيل "ترجمة النص العربي القديم وتأويله" (2010)، الذي اهتمت فيه ببحث علاقة المستشرقين بالشعر العربي، وخاصة المستشرق بلاشير، الذي تميز بحبه وإخلاصه للأدب العربي، وكتاب "الشعر المنثور والتحديث الشعري" (2010)، الذي تناولت فيه مفهوم الشعر المنثور في العالم العربي، في محاولة للإجابة عن سؤال: كيف يمكن للنص أن يكون شعرًا ونثرًا. ولا شكّ في أن الشعر المنثور يحيلنا إلى زمن النهضة العربية التي شكّلت مركز اللقاء المنتج مع الحداثة الغربية التي كانت أمواجها تهبّ بقوة على العالم العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، ما أدى إلى قيام ثورة شعرية جدّدت الشعر العربي الحديث، وربطته بالتجارب الشعرية الكونية، من دون أن يفقد هذا الشعر ملامح الخصوصية، أو القدرة على التعبير عن الرؤية العربية للعالم. إذًا، عندما يأخذ القارئ في الاعتبار الأعمال النقدية للباحثة، وعشرات المقالات والمشاركات في الندوات داخل المغرب وخارجه حول الشعر والفن، فإنه سيدرك أنها مؤهلة للقيام بهذه القراءة المختلفة للشعر العربي، وهذا الكتاب الذي نحن في صدده هو شهادة صادقة على مدى وفائها بهذا الوعد.
إن التفكير في تواشجات الشعري والفني قد استأثر باهتمام عدد من الفلاسفة والنقاد والمبدعين، سواء في السّياق الغربي، أو العربي. ففي حقل الدّراسات الغربية، تشير الباحثة إلى دراسة إيف بيري "الرسم والشعر" (2001) كأهم محاولة لدراسة العلاقة بين الشعر والرسم منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى مطلع الألفية الثالثة. أما في العالم العربي الذي يرتدّ فيه ظهور قصيدة الصورة التي تحدّث عنها عبد الغفار مكاوي إلى جماعة أبوللو، مع أحمد زكي أبي شادي الذي انفرد لوحده بشعر التصوير، فتذكر الباحثة من بين النقاد الذين اهتموا بالتشكيل البصري للقصيدة محمد الماكري، محمد نجيب التلاوي، محمد الصفراني. وفي هذا السياق، قد يتساءل بعضهم ما الذي يعطي لهذا الكتاب نوعًا من الخصوصية بين الدراسات في حقل النقد الشعري التي عنيت بدرس هذه الإشكالية. وللجواب عن هذا السّؤال المشروع، يمكن أن نقتبس من مقدمة المؤلفة إشارتين مفيدتين في هذا الصدد.

 

أولًا:  تذهب الباحثة، وهي مطلعة على الحركة الشعرية الحديثة والمعاصرة، وعارفة بنقد الشعر العربي المعاصر، وبخريطته، إلى أنه لا توجد دراسة مستقلة تناولت تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث. بالطبع، هنالك مساهمات فكّرت في الموضوع، غير أنها لم تصل إلى ما وصل إليه هذا العمل من شمولية الدرس والتقصّي والسعي لاقتراح أنموذج منفتح لقراءة الشعرية العربية قراءة موسّعة لا يستحكم بها هاجس تقديم إجابات، وإنما تتغيا فتح المتن الشعري على مزيد من الأسئلة التي من شأنها بلورة مسارات جديدة للقراءة والتأويل. إن ما يعزّز ما ذهبت إليه الباحثة هو التجارب الشعرية والفنية العديدة التي تناولتها بالدرس والتحليل. فرغم أن الكتاب يستند إلى شعرية شربل داغر كنموذج للتفكير في العلائق بين الشعر والفن، وهو مثال ملائم نظرًا إلى الأهمية التي يكتسيها العمل الشعري لداغر، بوصفه عملًا مجددًا وطليعيًا، فإننا نلفيها تنفتح، سواء من خلال القراءة والتحليل، على تجارب شعرية وفنية عديدة لفتت إليها أنظار النقاد ليس بالنظر إلى مضمونها، وإنما اعتبارًا للجمالية التي ينطوي عليها الشكل الفني، والتي هي نتاج العمل الذي يقوم به الشاعر على اللغة، أو من خلال المحاورة التي تتيح انطلاقًا من أسئلة محدّدة، الإضاءة على الإشكالية المفكّر فيها؛ إشكالية التواشج بين الشعري والفني.


ثانيًا:  تنبثق قيمة العمل من المتن المدروس، أو المفكّر فيه، أقصد الشعر العربي الحديث الذي بات في سياق الحداثة ينهل من مختلف حقول المعرفة، وينفتح على أنماط الفنون المجاورة، وبالتالي فإن فهمه يقتضي الانطلاق من قراءة تستثمر كلّ هذه المعطيات الشعرية واللسانية والبلاغية والفلسفية والفنية التشكيلية والموسيقية والمسرحية والسينمائية. وهذا جانب منهجي يميز هذه الدراسة التي ترمي، استنادًا إلى مفهوم القراءة المنفتحة التي تدمج مجموعة من المفاهيم المستمدّة من حقول مختلفة، إلى الإضاءة على مجهولات الإبداع الشعري العربي التي تظل بحاجة إلى القراءة والتأمّل والكشف. ولا شكّ في أن الانطلاق من خلفية متعددة الاختصاصات، أو منفتحة على حقول ومباحث معرفية متعددة من أجل درس تواشجات الشعري والفني لا يعني فقط استثمار مناهج ومقاربات مختلفة للتأمل في النص الشعري العربي المعاصر، وفهم مستويات وأبعاد العلاقة التي يقيمها مع الفن، خاصّة عندما يحضر هذا الأخير في رحابه، وإنما يعني كذلك ضرورة إقامة حوار بين الشعراء والفنانين، والجلوس إلى طاولة واحدة جنبًا إلى جنب للتفكير في هذا التواشج في أبعاده المتعددة. في هذا السياق، تقول الباحثة: "إن عناق الشعر والفن مبني على التواشج والتجاور لا التباعد في نطاق الانفتاح الشعري الثقافي الذي تعرفه القصيدة في العصر الحديث ضمن مشروع ثقافي منفتح على آفاق جديدة في القراءة والتأويل" (الكتاب، ص 12). في هذا القول يكمن ذلك التوجه المنهجي الذي يسعى إلى انتزاع الشعر من المقاربة المنغلقة التي تقصر جدواه على الفعالية الجمالية فقط، ووضعه في سياق مقاربة موسعة ومنفتحة على الفنون وعلى شعريات العالم وتسعى إلى تجديد الآليات المنهجية لتلقي النص الشعري وتحقيق تواصل مختلف بين المبدع والمتلقي.

وباعتقادي أن قارئ كتاب "تواشجات الشعري والفني في الشعر الحديث" يلمس أنه في صدد عمل نقدي جادّ ورصين. ففضلًا عمّا أشارت إليه المؤلفة من أن الكتاب هو نتاج سنوات من العمل على تجميع المادة، نَحسبُ أن التأمل في المحاور التي تناولتها بالدرس في أقسام الكتاب المختلفة، والافتراضات النقدية المشيّدة حول التجارب والأعمال الشعرية المدروسة. هذا، بالإضافة إلى المرجعيات النقدية والفلسفية التي عملت على استدعائها، والأسئلة التي وجهتها إلى الفنانين والشعراء، وهو خير ما يدلّل على الجهد المبذول في بناء هذه القراءة الموسّعة الهادفة إلى الكشف ليس فقط عن جوانب من ثراء القصيدة البصرية التي هي نتاج الحوار بين الشعر والفن لدى شربل داغر، وعدد من الشعراء والفنانين العرب، وإنما أيضًا إلى تلمّس ما هو جوهري في الشعرية العربية المعاصرة، والمستمدّ من الحداثة، أي من الشكل الفني الذي اقترن في التجارب الشعرية العربية القوية بالانشقاق والتمرّد والمغايرة والرغبة الجامحة في اختراق كلّ شيء، بما في ذلك الأجناس والأنواع، وبالتطلع إلى بناء عالم موازٍ للعالم الواقعي ومختلفٍ عنه

(موقع "ضفة ثالثة" الإلكتروني، 14 تموز-يوليو 2023).