قد يبدو للبعض أن وضع كتاب مثل «مذاهب الحسن: قراءة معجمية-تاريخية للفنون في العربية» اشتغالٌ في الماضي المحض، فيما هو ينطلق كذلك من أسئلة الحداثة، ويعمل في نطاق رهاناتها كذلك. بل يمكن نسبة هذا العمل إلى نقد المثاقفة، حيث أنه يعيد النظر في حاضر الكتابة العربية (والأجنبية) عن الفنون في العربية. وهو نقدٌ يطاول وجهاً من أوجه ثقافة "عصر النهضة" المستمرة حتى أيامنا هذه؛ وهي ثقافة لم تقر وحسب بنظام المعارف والفنون والعلوم ذي الأساس الأوروبي، بل عملت كذلك على استدخال مترتبات الجدولة والتبويب (والتفسير أحياناً) التي خص بها هذا النظام ثقافة العرب (والمسلمين) الماضية.
ويكفي للدلالة على التغير هذا الوقوف عند لفظين-عمادين في الثقافة العربية المعاصرة: فلفظ «الأدب» يعني حالياً إنتاجات اللغة، ولا سيما الشعر والنثر وغيرها، فيما كان يعني قبل القرن الماضي (التاسع عشر) التربية والتعليم فقط. هذا ما يمكن قوله عن لفظ «الفن» أيضاً إذ عنى الغصن والفرع من الشيء أو من العلم أو من الكتاب، قبل أن يعني في الثقافة العربية الراهنة النتاجات البصرية المستحسنة (الجميلة) تحديداً.
هذا ما تقوله الألفاظ بوصفها حافظة، لا للمعاني والدلالات وحسب، وإنما كذلك للتغيرات الحادثة في التبادلات والتعيينات الكلامية في الجماعة اللسانية الواحدة، ما يعني أن مساءلة اللغة عن حمولاتها - وهي في أساس بناء الكتاب منهجياً - تأريخ مخصوص عن إنتاجات المجتمع، في جيدها ورديئها، وعن الصفات التي يلحقها بهذه أو يحجبها عن تلك.
وكانت العودة إلى اللغة لازمة، إن صح التعبير، إذ أن متبقيات الفنون وكتابات التاريخ لم تحفظ لنا دوماً ما يكفي لدراسة هذه الفنون. وهذا ما يمكن قوله كذلك في تصنيف الفنون، أو ترتيبها في منظومة، إذ لم نعرف ما عرفه الدارسون الأوروبيون، في تمييزاتهم القديمة بين فنون «حرة» وأخرى «يدوية»، وبين فنون «عظمى» وأخرى «دنيا»، ثم الحديث في الأزمنة المعاصرة عن «فنون جميلة»، ثم «تشكيلية»، وعن «الفن السابع» (أي السينما) الذي أُلحق بالفنون هذه.
والعودة إلى متون الكتب والتصنيفات القديمة لم تنعم علينا بنظام خصوصي للفنون، ولا بمذاهب الحسن، أو تقويمات الجمال ومعاييره وقيمه: قد نقع على اجتماع الموسيقى بالهندسة، أو الخط بلتزويق، إلا أن هذه الاجتماعات لم تبلور نظاماً مخصوصاً ضمن الثقافة العربية-الإسلامية القديمة، من دون أن يعني هذا أن الأفراد ما كانوا يجتمعون على استحسان (أو استقباح) هذا الصنيع، أو هذا السلوك، أو تلك الصفة... ذلك أن انشغالات الفكر - ومنها الانشغال بالحسن، في معاييره وقيمه - قد تعنى بأمور دون أمور، وأن ما تعنى به قد لا يوافق اهتمامات الجماعة بالضرورة.
فالمفكرون الإسلاميون القدامى توقفوا طويلاً عند الموسيقى، إلا أنها ما عنت في حسابهم في غالب الأحيان أشغال جميلة المغنية أو عطرد العازف أو زرياب وغيرهم الكثيرين، بل توافقات النجوم والكواكب في حركات الكون. وهذا ما يمكن قوله في الهندسة أيضاً، إذ عنت غالباً حركة الأفلاك، وبناء الاسطقسات والعناصر والهيولى والصورة وغيرها.
واللافت في أمر الحسن في انشغالات الفكر، فقهاً وكلاماً وفلسفة، هو أن الكاتبين انصرفوا إلى دراسة العلويات، ومنها الروحانيات والإلهيات، وإلى تصعيدها (أو ترقيتها)، على حساب الدنيويات، بما فيها المصنوعات والإنتاجات البشرية على اختلافها. وهو نهج في السعي الفكري، نتحقق منه منذ أمبيدوكل (القرن الرابع قبل المسيح) في الفكر الإغريقي، وأدى إلى تمييز الأرضي عن العلوي، بل إلى جعل العالم الأصيل والحقيقي في «عالم المثل» (مثلما قال أفلاطون) على أن صور العالم الأرضي «متدهورة» عنه. وهو سعيٌ في الفكر بلغ مع الفكر المسيحي، ولا سيما في نسقه البيزنطي، حدوداً توسطية بين العالمين، إذ جرى التعامل مع الأيقونة بوصفها من طبيعتين، إلهية وإنسانية في آن، وهو ما انتهى مع السعي الإسلامي إلى فصل تام بين العالمين، وإلى جعل الحسن ممكناً في صفات الله.
هذا ما واجهه الدارسون الأوروبيون كذلك عند تصنيف الفنون العربية-الإسلامية القديمة، إذ لم يجدوا في المتون ما يعين هذا النظام، أو يكفله، وغفلوا بالمقابل عما تحدث عنه «إخوان الصفاء» في الرسائل عن «صناعة الزينة والجمال». إلى هذا، فإن قراءاتهم لهذه المتون اتسمت بتسرع ما أتاح لهم الوقوف على التباين بين انشغالات الفكر وسلوكات الذوق في هذه الجماعات. وهو ما يمكن تسميته بتاريخية المعرفة، إذ أنها تتباين أحياناً بين ثقافة المختصين ومعتقدات الجماعات، كما تختلف المعرفة كذلك بين عهد وآخر ضمن الثقافة الواحدة.
هكذا أجرى الدارسون الأوروبيون على الفنون القديمة تصنيفات وترتيبات، غير مستندة إلى أي أساس في الثقافة والصناعات المحلية، فما استندوا، لا إلى علوم القدامى وتصنيفاتهم، ولا إلى سلوكات الجماعات وأذواقها، ولا إلى نظام جمعي بين الأساسين هذين. بل أجروا على هذه الفنون جداول استقوها من ثقافتهم المخصوصة، فخصوا العمارة والخط والصورة بفنون (وهي كانت على هذه الصورة في ثقافتهم)، وصنفوا الفنون الأخرى وفق أسس الجنس أو الصنف (فن المعادن، الحلي...).
لهذا يمكننا القول إن النظام السداسي الذي ينتهي إليه كتاب «مذاهب الحسن» - أي الحديث عن ستة مجاميع، هي: الدارة (العمارة)، الشارة (اللباس والهيئة الحسنة)، الصوت (الغناء)، الشعر، الكتابة والدمية (التصوير والتمثيل) - قديم ومستحدث في آن. أي أنه نظام يستند إلى ما كانت تقره شواغل الفكر في أعمالها، وإلى تقويمات مبثوثة في الجماعة وسلوكاتها، كما تتبدى لنا في مطالعات ومعاينات تاريخية واجتماعية لسلوكات الذوق في البيئات العربية-الإسلامية.
وهو مقترح يبتعد عما اختطه دارسو الفنون القديمة من الأوروبيين والغربيين، إذ أنهم وضعوا جانباً المتون المحيطة والمفسرة لهذه الفنون، وتعاملوا معها على أنها أشبه بالآثار القديمة، بل باللقى، أي متبقيات وحسب من دون الثقافة والتفسيرات التي لها أن تعينها وتفسرها في آن. هذا في الوقت الذي كانت فيه هذه الفنون موجودة ومستمرة ومتطورة (ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) في عدد كبير من البيئات العربية والإسلامية، عدا أنهم تجاهلوا نصوص الثقافة العربية-الإسلامية التي تحددت بها هذه الفنون وتعينت فيها.
لهذا تكون قراءة الماضي برفقة مواده، المادية أو الكتابية، ورغماً عنه في بعض الأحيان. إذ أن المتون ما حفظت دوماً من المواد والكلام ما يكفل النهوض بتفسيرها، أو ما يدعم توثيق هذا الإنتاج أو ذاك. ذلك أن المتون انشغلت بأمور دون أمور، وأعلت من شؤون وحطت من شؤون، عدا أنها ألزمت كتابتها بقيود عامة أو خاصة، مفروضة أو معتمدة، ما يشكل سدوداً دون بلوغ معرفة وافية ومتوازنة عن شواغل الجماعات والأفراد في العهود المدروسة. وهذا يعني أن قراءة الماضي يمكن، في بعض الأحوال، أن تتحول إلى قراءة مضادة له، أو محولة أو معدلة لعدد من تقديراته وأخباره. وهذا ما نراه في عدد من كتب الأخبار التي تمدنا بمعلومات عن الماضي رغماً عنه، إذا جاز القول، إذ تورد أخباراً مقتضبة أو تتطلب تفسيرات تُظهر معانيها الخافية أو المستترة، والتي لها أن تعيننا على النظر المجدد والمختلف لهذا الماضي، أو لكيفيات تبويبه وعرضه من قبل القدامى.
(في ندوة حول الكتاب، في "المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة"، عَمان، 1999).