الأساس اللغوي للفن الإسلامي : جمالية الغياب
أللفن الإسلامي علاقة لا زمة بالوجود وبالمعاينة؟ أله علاقة بالتاريخي، بالزمني؟ أم أن علاقاته تندرج في ما لا يتعين في زمن، أو وقائع، بل في مشاهدة ذات طبيعة أخرى؟ ما صلة الفن بالتالي بالذاكرة، بالأثر؟ أللفن صلة بجمالية التمثيل، وبجمالية الحضور بالتالي؟
هذا ما أريد عرضه وامتحانه انطلاقاً من مدونات عربية قديمة، سواء في الشعر أو في النص الصوفي أو في مواد الفن (البصري) المادي. فما يمكن القول؟
الذاكرة بين المعاينة والقراءة
لو عدت إلى معاني لفظ "ذاكرة"، في الفرنسية مثالاً لا حصراً، وإلى أحد الكتب الأساسية الأخيرة في هذه المسألة، وهو كتاب بول ريكور: "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (1) لوجدت هذا الكاتب ينطلق في درس الذاكرة من مقترحين إغريقيين:
- واحد أفلاطوني، يقول بالتمثيل الحضوري لشيء غائب، ما يدعو إلى اشتمال الذاكرة بالخيال؛
- وثان أرسطي، يقول بتمثيل شيء سبق التقاطه، وحفظه أو اكتسابه، ما يجعل مسألة الصورة تندرج في التذكر.
وما يجمع هذين الصنفين فهو تعويلهما معاً على منظور »التمثيل«، الذي يعني - مهما تعددت أو تباينت دلالاته - تذكر ما سبق، أو تخيل ما هو واقع خارج النظر، ولكن على أنه مما يمكن التقاطه بصرياً، أي مما وقع أو يقع للعين فتتعرف عليه أو تشبهه بغيره. وهو ما أجمعه في الكلام عن "وجودية الذاكرة"، أي أنها تحتفظ بما هو في الوجود، مما عرفته وحفظته ومما تقبل به وإن غاب عن ناظرها (2)، الذي لا يعدو كونه صيغة أخرى من الشبيه، من البدل.
هذا يعني أن الذاكرة تحفظ وتستعيد، تاماً أو ناقصاً، ما سبق أن وقع تحت عينيها وأزيح من أمامها. وهذا يعني أنها تتمثل ما غاب عنها، أي تتخيله. إلا أن ما تتخيله ليس معدوم الوجود، بل هو من المعين الإنساني (3). وما يجمع الصنفين يقوم على الحفظ نفسه، ما يجعل الذاكرة فعلاً إنسانياً، موصولاً بالزمن، وما يجعل العلاقة بين الحافظ والمحفوظ متعينة بالضرورة في الوجود، في ما يصادفه الإنسان ويقع له ويحتفظ به أو يتخيله بعد فقدان أثره. وما يجمع الصنفين واقعاً هو الوجود نفسه، محل الظهور، بما يتأتى منه ويعود إليه. أخلص من هذا إلى التشديد على التالي:
- الذاكرة إنسانية، ومنها النسيان، وتستجمع ما حُفظ - على نواقصه وأحواله وإسقاطاته - مما حدث في الزمن،
- الذاكرة قد تستعيد ما سبق أن احتفظت به، أو قد تتخيله أي تبني شيئاً من المعين الإنساني نفسه (4). وماذا عن "الذاكرة" في العربية؟
"الذِّكْر: الحفظُ للشيء تَذَكُّرُه. والذِّكر أيضاً: الشيء يجري على اللسان (...) يكون الذكرى بمعنى الذِّكر، ويكون بمعنى التذكُّر (...) (وهي) نقيض النسيان (...). قال كعب بن زهير:
أَنَّى أَلَمَّ بكَ الخيال يَطيفُ ومطافُه لكَ ذُكْرةٌ وشُعوفُ
(...) الذكر ما ذكرتَه بلسانك وأظهرتَه (...). واستذكر الشيء: درسَه للذِّكر. والاستذكار: الدراسة للحفظ. والتذكر: تذكرُ ما أُنسِيتَه. وذكرتُ الشيء بعد النسيان وذكرتُه بلساني وبقلبي، وتذكرته (...). والذِّكر: الصيت والثناء (...). والذكْرُ: الكتاب الذي فيه تفصيلُ الدين ووضعُ الملل، وكلُّ كتاب من الأنبياء، عليهم السلام، ذكر. والذكر: الصلاة لله والدعاء إليه والثناء عليه (...). الذكر: الصلاة، والذكر قراءة القرآن، والذكر التسبيح، والذكر الدعاء، والذكر الشكرُ، والذكر الطاعة" (ذ ك ر : "لسان العرب").
إن العودة إلى الألفاظ الاشتقاقية والاستعمالات اللغوية والدلالات المختلفة للجذر: ذ ك ر، انطلاقاً من ثبت "لسان العرب"، تُظهر في تتبع ومعاينة كميَّتين كونها تتحدث عن فعل لغوي في مقام أول، لا عن فعل بصري، وعن فعل داخلي-نفسي، لا وجودي-عياني. وهذا يبطل العلاقة بالزمن التي تقيمها الذاكرة مع أثر حاصل وقابل للمعاينة والتحقق منه، أي الأثر المستبقى في حافظة الصور، فيما يقيم الذكر العربي علاقة بالنص اللغوي، على أساس القراءة والتلاوة، ولأغراض تتعين في الشكر والدعاء والثناء والمتعة التقربية من الله (بفعل ذكره).
يعمد غير فيلسوف إغريقي، مثل سقراط وأرسطو وغيرهما، إلى تشبيه عمل الذاكرة بعمل الصانع على كتلة من شمع، أو بعمل المصور الزيتي في إنتاج الصورة-الشبه وغيرها من المعاينات-الأوصاف التي تحيل إلى فنون مادية الصنع، وتتصل بمبدأ المحاكاة. وهو ما يمكن أن أقلبه، أو أن أستعمله في الوجهة الأخرى، من الذاكرة إلى الفن. فقد يكون الفن شكلَ استعادة أو تخيل لما كان أو لما كان بإمكانه أن يكون، لما حدث أو لما يمكن تصديق إمكان حدوثه: هذا يصح في الرواية، في اللوحة، في القصيدة وغيرها، ويجعل الفن موصولاً بالوجود العياني، أو التصديقي، كما سبق القول. وهو ما يتعين في وجه صلة أخرى أسقطتُها أعلاه، وهو أن تعريف الذاكرة في صنفيه يتعين في "التمثيل"، في عرض المحفوظ أو المتخيل.
ينبني هذا التفسير ويخفي في آن أساس قيامه، وهو أنه يستند إلى أساس ظهوري، عياني، صوري، للوجود، وللمحفوظ منه، أو المتخيل عنه. فالعرض أو الظهور الفنيان لا يكونان إلا ببناء صورة عنه: الفن تمثيل الوجود، أو "محاكاة الطبيعة"، مثلما قالت الفلسفة الإغريقية والفلسفة الغربية تأسيساً عليها. وهو ما أريد تناوله في مسألة واحدة وهي شكل العمل الفني، أو ظهوره المادي، كشكل متعين لعلاقة أطلب تعيينها ودرسها.
لو شئت اختصار طرقٍ في العرض، لا في التفكير، تصل بين الذاكرة والفضاء في نطاق الفن، ودرساً للفن العربي القديم خصوصاً، لقلت بأن ما درستُه في الفكر الإغريقي يتعين في المعاينة أساساً للذاكرة، وأن الذاكرة تعتني بالأثر أو بالمطبوع، بوصفها إحساساً أو معرفة بشيء، فيما وجدت "الذكر" في العربية يحيل في غالبه إلى أفعال تلاوة لغوية متكررة، و"التذكرَ" يحيل إلى معرفة ما لا يعرف من خلال تأويل النص الديني. هذا ما يمكن أن أرسمه في حركة واقعة فوق خط الزمن، حيث أن النص الإغريقي يتعامل مع الذاكرة بوصفها من الماضي (وهو ما يقوله سقراط في هذه العبارة: "الذاكرة (هي) من الماضي")، انطلاقاً من لحظة "الحاضر"، التي تتحقق مما بقي أو مما انطبع فيها من أحداث وغيرها. إلا أن رسم الذاكرة في الكلام العربي فوق خط الزمن يثير مشاكل تتطلب تبيناً ومعالجة: المؤمن، إذ يعود، إلى تلاوة القرآن فهو يستعيد كلاماً قديماً، سابقاً على لحظة حضوره هذه، إلا أن الذهاب باتجاه النص لا يفيد في التعرف على الماضي (فهو غير ممكن إلا في حدود ما تتيحه القصص وأخبار السالفين، ومنها ما ورد في القرآن نفسه)، بل في "الكشف" عما لا يعرفه المؤمن، أو "التجلي" ولا سيما للمتصوف، أي في نوع من "استقبال" المعرفة، التي هي محفوظة، سابقة، في "اللوح المحفوظ" وفق العبارة القرآنية.
ان مثل هذا الكلام يثير مشاكل عديدة في تحديد الماضي والحاضر، المعاينة والتلاوة، التمثيل والتمثل، الغياب والأثر، والمعرفة والفن. فمشهد الذاكرة في النص الإغريقي لا يعدو أن يكون مشهداً صورياً، تمثيلياً، شبيهاً أو محاكياً للمشهد الفني نفسه؛ أي أن العلاقات لا تقوم على استعارة مشهد أو صورة من مسارٍ لفهم مسار آخر، وإنما تنبىء عما هو أقوى وأعمق من ذلك بينهما، وهي علاقات الذاكرة بالفن. فالفن لا يعدو أن يكون تمثلاً لما يمثل أمام العين، أو تتذكره، أو تتخيله، أو تسعى إلى استعادته...
وهو ما يمكن الوقوف عليه في مسار تاريخي طويل من الإنتاج الفني الإغريقي، الروماني، ثم الأوروبي فالغربي، وما يجتمع في مسار الفن التشبيهي، وفي منقلبه التشكيلي أيضاً، أي صورته الأخرى، الفن التجريدي (5). ووفق هذا المعنى انتهيت إلى القول، وإلى التأكيد منذ بداية هذه الورقة، بأن عنوان هذا المؤتمر يندرج في مسار يعين الجمالية وفق منظور يقيم إنتاج الفن تبعاً لعلاقات بين الذاكرة والتعين المكاني (أو الفضاء)، وهو ما يحيل ضمنياً إلى مسألة الحضور العياني على أنه معين الفن. وهو ما أطلب امتحانه في السياق الإسلامي القديم، في ثلاثة ميادين: الفن (البصري) المادي، والنص الشعري، والنص الصوفي.
الفصاحة أساساً للتحسين
"قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل...": سبق لي أن استوقفني مطلع هذه القصيدة لامرىء القيس، ووجدت في هذا الصدر الشعري ما يفيد عن معاينة وجودية وفنية لا تشبهها بأية حال ما عادت وكتبته قصائد أخرى، أموية وعباسية، في مدن دمشق وبغداد والكوفة وخراسان وغيرها، بعيداً عن الصحراء، وعن ذكراها كذلك. فالوقوف الأول وقوف وجودي، إذا جاز القول، فيما يمكن تسمية الوقوف الثاني بأنه وقوف لا يقوم على التذكر بل على بناء تقليد شعري، مما سمي بـ»العمود«.
هذا ما اتبعته القصيدة الجاهلية في بعضها، إذ أن غيرها من القصائد - ومنها الموسوم بـ"المعلقات" - لم يتقيد به، ما يمحض الوقوف على الطلل قيمة تتعدى المقاربة الشعرية المحض. فالوقوف هذا معاينةٌ للحضور الجاهلي، حيث هو ثبوت وامحاء لما هو عليه الوجود الإنساني والمادي. وهو ما يمكن أن ألتمسه في »قيافة الأثر« أيضاً، إذ أنه تبعَ كعلم، أي كمعرفة مخصوصة، بل اقتضاه مثل هذا الوجود بأحواله المتغيرة. ألا يمكنني قول الشيء عينه في معرفة أخرى، جاهلية، وهي علم الفراسة، وفي قراءة أحوال النجوم وهيئاتها وغير ذلك من المعارف الموصولة بمتابعة عيانية للوجود الجاهلي؟ ألا تسعى هذه المعارف كلها إلى قراءات متعددة لعلامات الحضور بوصفها علامات الوجود، سواء المادي أو الخلقي (الإنساني) وغيرها؟
هذه القراءات موصولة بالمعاينة، بالحفظ، بالتحقق، أي بمسار الزمن نفسه، وهو ما يمكن قوله في جانب كبير من القصائد الجاهلية، إذ هي تتحقق من معايشات، ومن التقاطات حسية، ومن أوصاف مادية لما يحيط بها. فيما تنبىء القصيدة الأموية والعباسية (وغيرها، أي اللاحقة لها، التي اتبعت هذا "التقليد" الشعري)، ذات الوقفة الاستهلالية الطللية، عن مجافاة هذه النسبة إلى الوجود. ولو شئت التحقق من هذه الصلة بالوجود لوجدتها، خاصة في العهد العباسي، في القصائد التي قطعت مع الوقفة الطللية تحديداً، ولا سيما مع أبي نواس وابن الرومي، حيث يمكن التحقق في شعرهما خصوصاً (6)، من أن لهما شعراً أغنى وأبلغ دلالة مما يدرجه النقد التقليدي والساري في تصنيف ميت وبليد، أي في "الخمريات" أو "الوصف"، فيما هو شعر يستعذب بناء معناه في المعايشة، ومنها المعاينة الوجودية.
ففي غير قصيدة لابن الرومي نتحقق من أن الشاعر يتذكر ويستعيد ما سبق له أن عايشه بنفسه. فهو في قصيدة موسومة بـ"العنب الرزاقي"، لا يصف هذا النوع من العنب، بل "وليمة عنب" اجتمع فيها مع صحب من العباسيين. وهو ما يمكن قوله في "تشمم" أبي نواس لأنواع من المشاوي في شوارع بغداد، أو غيرها الكثير من القصائد التي تتناول وجودها الإنساني والمادي تناولاً حسياً، بل شهوانياً أحياناً. إلا أن ما يقوله هذا الشاعر أو ذاك لا يقوم على التذكر، على نقل ما جرى، وإنما على بناء قصيدة لها جماليتها في بنائها، في ما تستولده من هذه الذكرى، أي في الفضاء الذي تستقيم فيه. ولو طلبت استعادة ما قاله أبو نواس، في معرض تعريضه بالوقفة الطللية، لاكتفيت من عبارته بالدعوة إلى "الجلوس"، بدل الوقوف على الأطلال.
إلا أن هذه القصائد تبقى قليلة، وتختلف مع غيرها - على ما أدافع في هذا العرض التحليلي - سواء في الشعر أو الفن المادي أو النص الصوفي أو النص النقدي الدارس لهذا الفن أو ذاك. وهو ما أجمله في القول التالي: إن أنواع الفنون المختلفة سعت، ابتداء من العصر الأموي تحديداً، إلى بناء "تقاليد" (7)، أو مرجعيات للفن، وجدتْ في "الفصاحة" أساساً لغوياً وجمالياً لها، ما تمثل في عمليات "جمع اللغة" وتقعيدها، والشروع في »تعليم« العربية ولأقوام غير عربية بدل اكتسابها التلقائي، وتصنيف الشعر الجاهلي في كتب ومختارات، ومنها "المعلقات" نفسها. وهو ما اجتمعت تداولاته في "المجلس"، سواء في البلاط أو بين "العلماء" أو في منتديات الشعر (مثل مربد البصرة وغيره) أو اللغة أو الجدل بين المتكلمين وسطاً تداولياً لهذه الفنون.
ان الحديث عن "الفصاحة" لا يعدو كونه تسمية لغوية وأسلوبية لما هو أبعد من ذلك، وهو الاحتكام إلى المرجعية الدينية، التي يمثل القرآن نواتها وعمارتها. فهو في أساس القراءة والتعلم، والمناظرة والتفسير، والفقه والحكم، والعبادة والجهاد وغيرها من أنواع الممارسات والأعمال والإنتاجات، وهو ما أجمله في قول سريع: القرآن نظاماً للمحاكاة، بدل الطبيعة في الفكر الإغريقي. هذا ما نجده في نظرية "إعجاز القرآن"، وهي أعلى ما توصل إليه الفكر النقدي القديم، منذ الجاحظ وبعده، وهو إعجاز واقع - وإن ينطلق من "الكلام المنزل" - في "النظم"، في ضم أسباب الكلام بعضه ببعض، أي مما يفعله الكاتبون أساساً وإن لا يصلوه.
وهو ما يمكن قوله لو توقفت عند مواد الفن المادي، أي مما يسمى "الفن الإسلامي". وهو كلام يحتاج إلى قدر من التوسع والعرض (إذ أن تعيين هذا الفن هو محل جدال في ما انتهى إليه في تصنيفاته الغربية)، ما أعالجه في استعراض عدد من المواد مثلما هي متواجدة في التجارب والسياقات الإسلامية القديمة: فهذه المواد لا تعدو أن تكون قرآناً أو مخطوطاً أو آنية أو عمارة أو سيفاً أو خاتماً وغيرها؛ وتشتمل هذه المواد فوق سطوحها المادية على أشكال وصور ورسوم، ما يندرج في معالجات مختلفة ومصنفة، منها: الخط والزخرفة والتزويق وغيرها. وما يمكن التحقق منه في هذه المواد هو أنها تجتنب أية معاينة وجودية لما تتولى معالجته فنياً. فالفن في هذه المواد لا ينبني تبعاً لمعاينة، ولا يستقي من الوجود، ولا من الذاكرة، أبنيته إلا إذا طلبنا الحديث عن "ذاكرة نقلية"، أي تقليدية يستعيد بها الفنان ما سبق أن فعله غيره وقبله من الفنانين.
جعل بعض النقاد من تحريم التصوير العبادي أساساً بنائياً لهذا الفن، وخالفوا في ذلك غير واقعة في فهم أسس هذا الفن: توجد في الديانات تحريمات تنهي عن هذا الأمر أو ذاك، وهو ما وقع في الديانة الإسلامية في التبعيد عن الوثنية تحديداً، إلا أنه لم يمنع ممارسات فنية غيرها، ومنها التمثيل الوجودي كما في المزوقة وغيرها. وإذا كان للديانة الإسلامية هذا »المحال« التصويري، فإن هذا النهي لا يكفي لتفسير الوجهة التعيينية التي وسمت الفن الإسلامي بهذه الهيئات والأشكال أو تلك. فممارسة الفن تقوم على اختيارات (وإن بدأت بممنوعات في نطاق يعينه)، وللفنانين أن يجدوا فيها أسباباً محفزة ومنشطة للفن (ذلك أن قراءة بعض الدراسات الغربية عن الفن الإسلامي تظهر بأن الفنان المسلم كان في وضعية المراقَب المقموع أو المكبوت دوماً، الذي لا يقوى على ممارسة التصوير التشبيهي، فإذا به "يتحايل" على الممنوع ويطوع خبرته الفنية في الزخرفة أو في الخط وغيرها، غير قادرين في هذه الكتابة - واقعاً - عن تصور صناعات وأساليب فنية غير التي عرفوها وجعلوها أساس الفن الوحيد). وما يستوقف في هذه المواد الفنية المختلفة أمران، تبعاً لما أعرضه:
- هناك مشكلة قلما التفت إليها النقاد والمؤرخون وهي أن تعيين هذه المواد الفنية، أو تعيين فنيتها، لا يتطابق مع ما عرف عنها في التراث العربي-الإسلامي القديم، وهو ما أجمله (وسبق أن كتبت عنه في عدد من دراساتي وكتبي) بالقول التالي: لا يطابق المتن الموسوم بـ"الفن الإسلامي"، كما تم تجميعه والكتابة عنه وكما يتم تدريسه حالياً، أصلاً موافقاً له في التراث الماضي؛ وهو بالتالي "متن موضوع"، خاضع للمناقشة في أقل الأحوال. وهو ما يتضح بعض الشيء في هذه الأمثلة القليلة: فمزوقة الواسطي كما ندرسها، وكما ترد في الكتب الفنية، مقتطعة من سياقها، مما كانت جزءاً صنعياً منه، أي الكتاب المزوق. والخاتم الذي نتعرف عليه في واجهة صالة في اللوفر، أو في كتاب التاريخ الفني، لم يكن على هذه الحال، بل كان ملكاً لهذا أو لتلك، أي مما يندرج في مقتنيات فردية، ويصلح لعمليات خاصة بالزينة الآدمية. وهو ما يمكن قوله في عدد واسع من المواد الفنية، حيث أنها مواد اقتطعت من سياقاتها، وتمت - كما كتبت في أحد كتبي الأخيرة – "إعادة إنتاجها" بما يناسب العرض والحفظ والتذوق الغربي.
وهو ما يصح في مواد فنية إسلامية - أي مصنفة كذلك - إذ أنها ليست إنتاجات فنية مخصوصة، متمايزة في أصنافها المادية عن عداها من المصنوعات: فاللوحة الزيتية لا تشبه عداها في البيت، وكذلك المنحوتة، فيما يمكن القول إن المزوقة تشبه غيرها من الصور، والخاتم يشبه خاتماً آخر وإن أقل زخرفة منه، والآنيةُ آنيةً أخرى وإن كانت معدومة الزخرفة، والسيف المذهب يبقى سيفاً قبل أي شيء آخر... وهذا يصح في الخط، إذ أنه يشبه غيره مما يفعله الكاتبون وإن يتخذ عند المبرزين من الخطاطين صفات تحسنه وتميزه عن غيره.
- ما يستوقف في هذه المواد الفنية أيضاً هو أنها تنبني وفق منطق كتابي، تدويني. هذا يصح في العلامات نفسها التي تنبني بها المادة الفنية: حروف، جمل، نصوص، أشكال هندسية أو خطية وغيرها؛ وهي تكاد تختصر وحدها - لو وضعت بعض الصور المزوقة التي ترد فوق الكتب أو بعض الجدران والأعمدة الإسلامية القديمة - العلامات التي ينبني منها العمل الفني. وهذا يصح أيضاً في "نظم" العلامات، أي في أشكال ضم بعضها إلى بعضها الآخر. ولقد استعرت لفظ »النظم« من الجرجاني لأدلل به على ما يصيب هذه العلامات في توليدها لهيئة العمل الفني الذي تظهر به للمتلقي. وهو ما كان فعله الجرجاني قبلي إذ طلب من النقوش أن تدله وترسم له سبيل "النظم" في الأقوال اللغوية، إذ يقول في كتابه "دلائل الاعجاز": "وكذلك كان (النظم) عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك. مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك وحتى لو وضع في مكان غيره لم يطلع" (8). ألا نرى بأن الجرجاني، بخلاف غيره، يشبه المعطى الأدبي بالمعطى المادي الفني، أي يجعل من النموذج الفني أساس المقارنة؟ إلاّ أن الأهم في ما يقوله هو أنه ينظر إلى الوشي والنسج على أساس "اعتبار الاجزاء بعضها مع بعض"، أي علاقاتها؛ وهي علاقات تقتضي وجود هذه العناصر في أمكنة بعينها دون أخرى. وهي مقارنة يلجأ إليها الجرجاني مرة ثانية في كتابه نفسه، حيث يتحدث مرة أخرى عن "النظم"، وهو أن "سبيله في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلاّ أن تكون مجموعة في رأي العين" (م. ن.، ص 76).
ولو اتبعت هيئة هذه الأعمال لتحققت من أن لها سبيلاً نظمياً يتخذ وجهة الكتابة بالعربية، أي من اليمين إلى الشمال، وهو ما يستمر فوق السطح المادي للعمل الفني أياً كان تكوينه المادي: فالفنان يخط فوق السيف المذهب، وفوق الآنية، وفوق الجدار، وفي صورة متمادية، حتى أنه يقيس دائرة الآنية أو الصحن الذي يخط عليه بحيث يأتي المكتوب موافقاً لمساحة العمل فلا تنقص عنه أو تزيد عليه.
جمالية الغياب
هناك أساس لغوي، كتابي، للعمل الفني الإسلامي، سواء في علاماته أو في سبيل اجتماعها الأسلوبي، وبالأساس في أساسه الجمالي. فما هو؟ سبق القول إن الفن الإسلامي يتجنب أو يبتعد منعاً أو صراحة عن المعاينة الوجودية، معولاً على القرآن، بدل الطبيعة، كما سبق القول، أساساً للمعاينة، للذكر واقعاً. فكيف ذلك؟
احتاجت بعض عمليات ومعالجات هذا الفن إلى توليدات واستخراجات هندسية لم تكن متاحة لأي فنان مسلم، ولا للصانعين الكبار منهم، لو لم ينصرف بعض المهندسين - على ما درست في كتابي "صناعة الزينة والجمال: الفن الإسلامي في المصادر العربية" - إلى وضع بعض الحلول الهندسية-الزخرفية، مثل رسم مربع في دائرة وغيرها من التوليدات العديدة والمعقدة. إلا أن غيرها من العمليات والمعالجات احتاج إلى مصادر أخرى، فما هي؟
إن عودة إلى المواد الفنية المدروسة تظهر بأن الفنان يتقن أو يجود أو يطلب التميز في مهارات صنعية بعينها، مثل التذهيب والتوريق والتخطيط والنقش والتوشية وغيرها. إلا أنها مهارات استندت إلى مواد كتابية (منها إيراد جمل أو سور وغيرها)، وإلى سبيل كتابي في الضم الأسلوبي، وإلى معاينات وتأملات دينية، بل تصوفية صادرة عن التأويل الديني، أو عن الرياضات الصوفية.
لقد عرفت المعتقدات، القديمة، ومنها ما قبل الإسلامية، تصوراً لبناء الكون يستند إلى جعل الكون جسماً إنساني البنية، أشبه بما تقوله العربية القديمة عن علاقة الإنسان بما يعلوه، أي سقفه أو سماؤه: فهي تشير إلى سقف الخباء، أي إلى سمائه. وهو ما يمكن الوقوف عنده في الحديث عن »السماء ذات العمد« وغيرها مما ورد في القرآن وغيره. ويمكن التحقق في تفاسير المتصوفة وغيرهم من تصور لبناء الكون أساسه "الشجرة" ("لا شرقية، ولا غربية«، وهي الواصلة بين السماء والأرض، أي "الإنسان الكامل"، كما قيل). وهو تصور أطلق عليه نقلاً عنهم تسمية "العبور"، أي السفر والمعراج والطريق وغيرها مما يصل الأرضي بالعلوي، والظاهر بالباطن، ومما يجعل »التبعيد« الذي هو في أساس التنزيه ممكناً لبعضهم على الأقل. هذا ما يقوى عليه البعض، وما يسعون إليه، على أنه فعل متميز وغير تلقائي أو بديهي، ويقوم على ممارسات وتجارب وأفعال. فما هي؟
القارىء، أو المتأمل، أو الزاهد وغيرهم من »الخاصة« (9) ينطلق من القرآن أساساً يبني عليه أفعاله وأعماله وصناعاته. القرآن في لفظه، وفي تأويله، على أن ما يقوله خزانة معان، ذاكرة محفوظة في "اللوح المحفوظ". ولكن ما يتأمله يقوم على "أعيان" ("العرش"، "الشجرة"...)، على جمل ("ن والقلم"...)، على ألفاظ ("العبور"، "التبعيد"...). ولكن مما تتأتى هذه التحققات أو الأعمال (ويمكن الحديث عن تجارب جمالية، مثل تجارب الذكر والشطح والمناجاة وغيرها) الفنية؟
هي تتأتى من القراءة اللغوية، من الوقوف على علوم اللغة والنثر والنظم والتأويل وغيرها. لهذا نرى أن كتابات المتصوفة والمفسرين والكلاميين تستند أساساً إلى هذه العلوم تحديداً، حتى أن أحد النحويين وجد في الإعراب - على ما هو معروف - ما يضاهي به "الفلسفة"، أي الإغريقية. وهو ما يحتاج إلى أنواع دراسة مختلفة: القراءة البصرية، اللغوية، المعايشة الإحساسية وغيرها. فكيف ذلك؟ أين يتعين مصدر ما يقوم عليه العمل الفني؟ أمن الذاكرة أم من غيرها؟
يتعين في الذاكرة في قسم من هذه الأعمال، حيث يتعامل الفنان مع المعطى القرآني، فيورده وروداً يطلب منه إثباته، حضوره، إظهاره، ولكن في صورة محسنة له عما هو عليه في الاعتيادي من ظهوره، أي في كتابة العامة. وهو ما يقوله البعض عن استدلال »الغائب في الشاهد«. فما معنى "نظر"؟
يميز أهل البيان بين نوعين من المعارف: "المعارف الضرورية"، أي الناتجة عن الإدراكات الحسية والمعارف الراجعة إلى الاخبار المتواترة؛ و"المعارف النظرية"، وهي التي "تحصل فينا عقب نظر". يقول البلاقلاني: "إنه علم يقع بعقب استدلال وتفكير في حال المنظور فيه، أو تذكر نظر فيه".
لا يعني النظر، إذن، الفعل البصري وحسب، بل التفكير أيضاً في "حال المنظور فيه". هناك نظر بالعين وهناك نظر بالقلب، حسب القاضي المعتزلي عبد الجبار في "شرح الأصول الخمسة". وهو ما يمكن التحقق منه في أفعال ومشتقات أخرى، مثل: رأى، أبصر وغيرها؛ وهي ألفاظ كان لها أن تفيد في المعاينة الفيزيائية، الوجودية، فيما تحققت من أنها، في العربية، في العديد من استعمالاتها ودلالاتها المستجدة والسارية بقوة في الكتابات، تشير إلى أفعال التأمل والقراءة والتفسير وغيرها. يقول ابن الرومي عن الخط:
له شاهد ان تأملته ظهرتَ على سره الغائب
هو فن التأمل في الشاهد (الأثر اللغوي، العلامة أو الشكل الزخرفي...) للوقوف على جماله الغائب؛ أي ان جمالية العمل الفني لا تقوم فيه إلاّ بوصفه شاهداً، أثراً، ظاهراً لباطن أجمل، ولحقيقة أنصع. لهذا يمكن الكلام، من جهة، عن حيز تشكيلي ينحصر في حدود الصفحة، أو في حدود القطعة الزخرفية، وعن حيز جمالي هو مجمل العمل الفني في علاقته بحقيقته الغائبة. فضاء فني، ولكن بعد أن بسطته يد الخالق: مكانه هو؛ لا يشاركه فيه أحد. ألا يقول الحلاج: "الخط أصله نقطة، فهو مجموعة من النقاط لذلك قلت: ما رأيت خطاً إلاّ ورأيت الله فيه"؟ وهو ما يمكن ترجمته بالمعنى التالي: أخط في كل مكان لكي يكون الله حاضراً دائماً. انه مكانه - مكانه هو، طالما أنه موجود في كل مكان، في الحيز، في الفضاء، قبل إنجاز العمل الفني وبعده، فيه وعبره.
يمثل العمل الفني بمثابة تدوين أو نقش على حامل أبيض؛ ولا خلفية له سوى البياض، سوى الفراغ، سوى المكان الكلي، أي الكون الذي ينتشر ويتمدد تبعاً لأبعاده الهندسية ومواصفاته المادية: فترى العمل الفني ينبسط مع الجدار المسطح، ويدور بشكل دائري مع العامود، ويتزوى في العمائر كما في التحف، وعلى سائر الحوامل المادية من خزف ونسيج وخشب ومعدن وحصى وحجر وفسيفساء. بسط الفنان المسلم الوجود مثل ورقة، أو مثل جدار، وتأكد من وجود الله فيه في كل جوهر فرد، في كل مساحة، في كل فضاء. فن يملأ الفراغ، من دون أن يخلق إيهاماً بالمكان، أو إيهاماً بالعالم. فن يستولد طبيعة أخرى للطبيعة، ويُحسِّن ظاهرها أو يعرضها في أجمل صورها وهيئاتها. نقش وحسب، آثار كتابية وزخرفية وحسب، تبلِّغ غيابه... الحاضر، أو حضوره... الغائب. وهو ما يقع، تبعاً للغة المتصوفة، بين "الوسم" و"الرسم". فما يعني هذا؟
قال بعض أئمة الصوفية، مثل الإمام القشيري، إن الرسم والوسم هما القدم والأزل، أو "هما صفتان في الأبد مما جرى في الأزل"، أي بما قدر الله في الأزل من علم وخلق. فهو الأول والآخر، لا أزل له ولا أبد، ولا زمان ولا دهر، فالرسم والوسم ما أحدثه وما أجازه الأحد الصمد القديم، وما حكم به في الأزل والأبد. ويرى صاحب "اللمع" أن الرسم هو ما رسم به ظاهر الخلق برسم، أي بالمظهر الذي عليه المخلوقات علماً وشكلاً وذلك بظهور سلطان الحق عليه. ويرى بعض المتصوفة أن من استولى عليه سلطان الحقيقة لم يشهد من الأغيار عيناً ولا أثراً، ولا رسماً ولا طللاً، ويقال إنه فنى عن الخلق وبقي بالحق. ويميز ابن عربي بين "علم الله" (وهو أبدي أزلي، لا في مكان ولا في زمان)، وبين خلق الله (وهو في زمان ومكان)، لذلك فان "الوسم" لا يتغير أبداً لأنه في سابق علم الله، ولا يطلع على علم ذلك أحد أبداً، فيما يتغير الرسم في ظهوراته، وهو ما يتعين الكلام عنه في "الأثر" أيضاً.
فالأثر للشيء هو ما يدل على وجوده. واستخدم أئمة الصوفية لفظ »الأثر« بهذا المعنى، أي العلامة الباقية لشيء قد زال. فالصوفي عندما يسلك طريق الرياضات والمجاهدات تكون معارفه "ذوقية" وليست عقلية ونظرية. ولذلك يقول الصوفية إن من منع من النظر استأنس بالأثر، ومن عدم الأثر تعلل بالذكر. ومعنى ذلك أن الذي لا يستخدم منطق الجدل العقلي وأسقط التدبير مع الله في أمره، فإنه يستأنس بالكشف والفتح، مشرقاً عليه من القدوة الطيبة، والأثر الكريم في شكل إلهامات ومعارف وتجليات يشرق بها قلبه، وتستأنس بها نفسه. هكذا يقسم ابن عربي العلوم إلى ثلاثة:
- علم العقل، ما يحصل بطريق الضرورة أو نتيجة نظر وبحث في دليل، بشرط الحصول على برهان؛
- وعلم الأحوال، ولا سبيل إليه إلا بالذوق ولا يستطيع الحصول على هذا العلم عن طريق العقل، فلا يقدر عاقل أن يجده أو يقيم دليلاً على معرفته، كالعلم بالوجد والعشق والشوق، وهذه العلوم من المحال أن يعلمها أحد إلا أن يتصف بها ويذوقها؛
- علوم الأسرار، وهو للعلم الذي فوق طور العقل، ويختص به الأنبياء والأولياء.
هكذا يعلو علم المتصوفة علم العقل، والمتصوف هو من يغيب عن حاله، وعما يحيط به من أشكال، فلا يهتم بها، لا هي ولا آثارها، منصرفاً إلى »الحق« وحده، إلى »الذكر«، وهو "استحضار الله في القلب مع التدبر"، وهو نوع من التقرب ومجالسة له من دون حجاب. وعندما يسلك المريد الصادق طريق الله يكون سلاحُه في المعرفة الذوقَ بدل الحس والعقل، وهنا يتجلى عليه فيكاشف ويشاهد ويراقب بالذوق أو البصيرة وليس بالفكر والعمل. والدرجة الأولى التي يصل إليها السالك هي المحاضرة، ثم المكاشفة، وأخيراً يصل إلى المشاهدة. فالمحاضرة هي حضور القلب واستحضاره، وذلك عند تواتر البرهان، أي أن العبد المؤمن أو السالك عندما يرى برهاناً من ربه يتواتر عليه ويستحضر قلبه يطلع من وراء الستر، أو من وراء حجاب، ويستعد لتلقي الإلهام الإلهي. أما في المكاشفة فلا يحتاج إلى استيضاح، فالقلب قد أيقن أن ما يتكشف له هو الحق، وأنه واضح له بلا افتقار إلى بيان أو تأمل لدليل أو برهان. أما الدرجة العليا، المشاهدة، فيكون الولي فيها قد حضره الحق إما كلاماً (أي صوتاً يسمعه) أو برؤية عن طريق البصيرة، ولا يمكن أن يختلط عليه الأمر أو يشتبه فيه، ففي المشاهدة ينتفي الشكل والخلط والشبهة. وهو ما يجتمع، حسب بعض المتصوفة، في "علم النون": "النون هو العلم الإجمالي يريد به الدواة فإن الحروف التي هي صور العلم موجودة في مدادها إجمالاً وفي قوله تعالى: "نَ والقلم"، هو العلم الإجمالي في الحضرة الأحدية والقلم حضرة التفصيل". وهو ما يصفه الشيخ أبو نصر السراج الطوسي، في صورة البحر الذي بلا شاطىء: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مداداً" (10).
الهوامش
1 : Paul Ricoeur : La mémoire, l'histoire, l'oubli, Seuil, Paris, 2000
2 : وهو ما يلتقي بما تحدث عنه النقد الروائي في "القابل للتصديق".
3 : هذا ما يمكن قوله عن الفن السوريالي، من جهة، وعن روايات وأفلام الخيال العلمي، من جهة ثانية، حيث أن السبيلين الفنيين، وإن تحدثا عن صور أو مشاهد أو وقائع لم تحدث، فإن عناصر الطرح أو الظهور الفني تبقى من معين ما يدركه الإنسان وما يتعرف عليه وإن لم يعرفه أبداً، وليست له بالتالي القدرة على تذكره، عنصراً أو علاقات.
4 : في نوع "استقبالي" - بخلاف "استرجاعي"، كما يقال في سبل الوصول إلى الذاكرة، وإلى استعادتها - لما كان في وسع الماضي أن يكون.
5 : لا يغيب عن بالي في هذا القول إن بدايات تعيين الفن التجريدي في التجارب الأوروبية، في العقدين الأولين من القرن العشرين، قامت على تسميته بأنه فن غير تشبيهي، أو "لا تشبيهي"، أي غير منقطع الصلة بالتالي بالفن التشبيهي نفسه.
6 : كيف لنا أن نفهم قصيدة البحتري في بركة المتوكل: أهي قصيدة في وصف ما يعاينه ويعجبه أم في المدح؟ وماذا عن قصيدة "فتح عمورية" لأبي تمام: أهي قصيدة في معاينة معركة زمنية، أم هي قصيدة في المدح؟
7 : هذا ما يصح في "العمود"، وفي غيره من قواعد الصنع الفني. وهو ما يصعب تأريخه، إذ يضيع في غياهب الزمن، ويتسلسل في تضاعيف الأعمال الفنية المختلفة، بين اتباع واختلاف في الجنس، في الغرض وغيرها.
8 : عبد القادر الجرجاني : "دلائل الإعجاز"، راجعه وصححه: محمد عبده ومحمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1978، ص 40 و41 .
9 : وجب التمييز، عند المتصوفة كما في الحسابات الاجتماعية الواقعة في طبقات المجتمع الإسلامي وفئاته، بين الخاصة والعامة، حيث أن الأولى هي القادرة على السعي العلمي الأبعد، فيما تعجز الفئة الأخرى عن ذلك وتبقى عند حدود الصور الظاهرة وحسب.
10 : الشيخ أبو نصر السراج الطوسي: "اللمع"، لجنة نشر التراث الصوفي، ص 442 .
(ورقة في مؤتمر دولي حول "فضاءات وذاكرة"، تونس، 2003، منشورة في كتاب المؤتمر).