جهاد هديب : المخيلة بين القصيدة واللوحة

تشهد عمان في هذه الاثناء معرضاً تشكيليا خاصاً بالنسبة لها على الأقل. فلم تجر سابقا اقامة ورشة تشكيلية شعرية على هذا النحو من العمق بين فنيين مختلفين. المعرض نظمته الجمعية الملكية للفنون الجميلة في المتحف الوطني الاردني ويجمع شربل داغر الشاعر والناقد التشكيلي الى سبعة رسامين من بلدان عربية مختلفة في فضاء يشمل قصيدة ومعرض: تواشجات.
تواشجات: التقاء تصوير بشعر وكلمة بلون ليس في منتصف المسافة بينهما بما يجعل احداهما يبدو مؤثرا في الآخر فحسب على مستوى النتيجة الابداعية المتعينة في لوحة أو قصيدة بل ايضا في العودة الى تلك الجزيرة البعيدة التي انطلق منها هذا الفّنان: المخيلة .
على هذا النحو من القول يمكن البدء بتوصيف هذا المعرض. معرض صادم ومثير للافكار والمخيلة ومشغول باحتراف واضح كي يصل الى هذا المستوى من الفرادة من بين المعارض التي اقيمت حتى الآن خلال السنة كلها. ذلك لأنه اكثر من مجرد معالجة تصويرية لقصيدة.. انه ورشة عمل حقيقية بين الفنانين والشاعر فأثر كل منهما في الآخر اثناء العمل على انجاز هذا المعرض. انه ذلك النوع من التواشج والاشتباك والاحتدام بين مشاعر واحاسيس تذهب من اللغة الى اللون ومن اللون الى اللغة ويدور في افق عربي يجمع الشاعر شربل داغر في تجربته الشعرية عموما وكتابة قصيدته (تواشجات) الى سبعة رسامين عرب: الاميرة وجدان (الاردن) ومحمد ابو النجا (مصر) وهناء مال الله (العراق) وجمال عبدالرحيم (البحرين) وإيتيل عدنان وغادة جمال (لبنان ( وفيصل السمرة (السعودية) .
والأرجح انه ما من شاعر آخر كان في مقدوره القيام بما قام به الشاعر شربل داغر في ورشة العمل هذه فهو يتواجد بعمق في الحركة الشعرية العربية الراهنة نصا ونقدا وفي المستوى نفسه يتواجد في الحركة التشكيلية العربية ناقدا مميزا ومحفزا للانتاج الابداعي المختلف .
وهنا من الممكن الاشارة الى انشغاله باللوحة الحروفية العربية وما بعدها والتي اقترح لها تسمية «اللوحة اللغوية» كما في كتابه "اللوحة العربية بين سياق وأفق"، الصادر مؤخرا عن منشورات بينالي الشارقة في الامارات العربية المتحدة، بحيث يلمس المرء ان مجال الاشتغال النقدي على هذه اللوحة تحديدا سببه ان تخلص من الفوضى والارتجال والنزعة التجارية التي تسم الحركة التشكيلية العربية المعاصرة الى ما يميزها عن سواها في الحركة نفسها ويحقق لها هوية متعددة نابعة من المنطقة نفسها دون انفعال او افتعال او انطلاق من جهة الايديولوجيا المحضة الامر الذي يمكن وصفه بانه موقف من المعرفة وليس ممارسة نقدية فحسب .
وفي صدد (تواشجات) القصيدة، فالشعر الذي يكتبه شربل داغر فيه رسم بدأ مبكرا مع تجربته الشعرية ويظهر في البناء فالمرء غالبا ما يلمح ان فعل الحركة او المخيلة الشعرية والذي غالبا ما يكون فعلا متعديا اميل الى ان يجعل الصورة الشعرية ذاهبة باتجاه الصمت وكأن شربل داغر دائما ما يتأمل مشهدا جبليا يبعث على كآبة فيها لذاذة الاستغراق في التأمل ليقول ما في دواخله إنما يحاول فض اشتباك جواني عاصف. انه لشدة ذلك يكتب شعرا راهنا يكاد يكون خلوا من اي تذكر .
غير ان الملمح الأساسي في (تواشجات) انها قصيدة نتاج هدم وإعادات بناء نتجت عن حالات تفاعل مع الاعمال التشكيلية اثناء بنائها وهنا استثنائية تنأى بها عن المنجز الشعري في الكتب لشربل داغر، وتقترب من تجربة "رشم"، تلك القصيدة التي انجزها الشاعر بحوار عميق مع لوحات لجمال عبدالرحيم. انها قصيدة نتاج استلهام والهام في اتجاهين متباعدين :
"عنواني يسبقني
فيما أتهجى حركاتي
عنواني يسبقنيفيما اتهجى حركاتي،
الضيوف يستقبلوني
في ما هو بيتي
الوديعة لا تخفي شيئا
تخفي ما ابكيه
من دون ان اعرفه
فأجدني في عزاء بيت من دون جثمان
اردد ما لا أدركه من فرط مااكرره...
أرى فاكتب
فلا تسرع الالفاظ امامي
تمشي ولا تنفذ
تتفقد أثاثاً في موضعه
تدع النائمين نائمين
وقد تلج اليه من البابالخلفي
اذن في البدء كان الشعر ومن اشتغال التصوير عليه جاء التواشج في مستوييه اللغوي والبصري غير ان ما يجعل الكلام صعبا ان يجري على المستوى البصري ان المعالجة التشكيلية لبنية اللوحة قد استدخلت الكلمات في حروف الى هذه البنية وجعلتها واحدة من عناصرها وهذا ما يثير اسئلة من نوع: ما مدى التعويل هنا على عنصر الكلمة/ اللغة؟ أهو محض احتفاء بالشعر؟ وهل هذا العنصر يحدد »هوية« ما للصنيع الفني يرسخه في الثقافة العربية الاسلامية؟ أهو تزويق وزخرفة أم مكابدة تخييلية؟
والحال انه لا اجابة قطعية ها هنا وإن لامس المرء نزوعا في اعمال المعرض جميعا في الذهاب باتجاه اقتراحات تأخذ الخامة في تعددها والاشكال في اختلافها الى ما يجعلها خصيصة في الثقافة العربية الاسلامية ولهذه الثقافة ، لكنه يتصل دائما باللوحة الحديثة. اذ أقلها ان هذه الاعمال من الممكن النظر اليها بوصفها اعمالا تجريبية اشتغل فيها الوعي وانشغل بها مثلما فعلت ذلك المخيلة... اي انها ليست فنا تزويقيا أو تزينيا أو حتى وظيفيا كما هي حال الفنون في الثقافة العربية الاسلامية او في الشطر الاكبر والسائد منها. اذن نحن في صدد لوحة تتصل بالموروث وتخالفه وتذهب الى الاصغاء العميق لجوهر الفن ببعده الانساني اكثر مما تعتمد على الارتجال او الصدفة او حتى التلقائية التي تميز مساحة واسعة من التشكيل العربي راهنا. وحول الاعمال جميعا فثمة ملاحظتان اساسيتان تتعلق الاولى بأنها غالبا قد نزعت الى فكرتين متجاورتين: المخطوط والرقاع كما نتخيلهما ومثلما قرأنا عنهما في الكتب فهما حاضنا المعرفة واداة تبادلها ومطرح الزينة والتزويق اما الملاحظة الاخرى فتحدد بالملمس فهو غالبا على غير ما نعهد في اللوحة الكلاسيكية .

 

التوازن في الايقاع اللوني وتراكبالرقاع
تميل أعمال الاميرة وجدان الى ان تكون رقاعا نقع زاهية ربما غير موجودة في اعمال سابقة لها فلا يلحظ المرء ضربات فرشاة قوية او قوية على السطح التصويري حيث الرقاع اذ تم لصقها الواحدة فوق الاخرى بقدر معين ومزاج لوني معين تصنع ملمسا ليس هو ملمس الخامة بل ملمس فيه تدرج الظل الذي يتأثر باللون وبشفافية الورق الذي صنعت منه الرقاع .
وذلك التراكب في الرقاع هو الذي يصنع التوازن في العمل حيث الشعر ها هنا موضوع اشتغال فني لكن كما لو ان الصنيع التشكيلي يحتضنه ويخبئه في اكثر من سطح واكثر من معالجة فنية. ألهذا كانت الرقاع في اعمال الاميرة وجدان اقرب الى الستارة او الحجاب .
والداخل الى القطاع الخاص من القاعة باعمال محمد فتحي ابو النجا كما لو انه في معبد مصري قديم والشعر يفيض من الرقاع حتى وان لم يكن فيها الشعر مكتوبا .
والرقاع هنا شبيهة بمعلقات وهذا ارتداد الى فكرة شعر جاهلي ما زالت فاعلة في الشعرية العربية غير ان الشعر هنا في الروح ايضا. فالمرء يحسب انه في الخامة واللون وما اخذ ابو النجا من شعر شربل داغر. وكل صفحتين متقابلتين في مخطوط لابي النجا هما لوحة مشغولة من خليط الطمي بالليف والاصباغ حيث الشعر ها هنا بوصفه لغة مخبوءة في طوايا المخطوط ومخبوءة في هيئة اللون وشدة حضوره .
وحتى تلك الرقاع في لوحات فالخط فيها او قل الحرف فيها ليس وحدة هندسية بل ثمة حضور للحرف في شكله الذي يحدث على اللوحة بوصفه ايقاعا .
وفي اعمالها تسعى هناء مال الله الى التقاء شعر بالتصوير بوضعهما مخيلتان متجاورتان على السطح التصويري. ثمة ملمس خشن مثير للاحاسيس ليس صنيع ضربات فرشاة بل صنيع رشاقتها بالاسود على سطح عولج لونيا بالنقع في حين ان فكرة الرقاع توازي في حضورها فكرة بناء اللوحة الحديثة فلا ايقاع منتظما بل التناغم الذي يصنعه احساس الناظر الى اللوحة المليئة بالتحولات الايقاعية في مساحة واسعة من السعي الى اختبار قدرات الخامة على العطاء الشعري - البصري .
وأمام واحد من ثلاثة دفاتر انجزتها إيتيل عدنان يشعر المرء بطفولة ما بل يستعيد احساسا بالطفولة فثمة التقصد في الخربشة الطفولية تجاور ما يوحي بالنسخ كما هو عليه كمهنة قديمة وليس بالخط فالشعر منسوخ بريشة دقيقة كما لو انه محتفى به اما الدفتر الاخر فيدخل الحرف في الكلمة ليصير عنصرا على السطح التصويري فالألوان مائية وسائلة وضربات الفرشاة اوضح مع انها هينة وغير قوية .
ويضع جمال عبدالرحيم الناظر الى تجربته مع شربل داغر في (رشم) امام لوحة غرافيكية مثيرة للادهاش لجهة الصنعة في الدقة فالشكل يذهب الى الهندسة ويكسرها كي يوحي ببعض ما يقول الشعر وكي تتصل بجانب صوفي يكسر الهندسة الى كتل لونية لا يهمه منها الا التجاور وقد احدث ايقاعا لونيا مثيرا للاهتمام يجعل التجريد الصوفي جانبا حسيا في ملمس وشكل مرئي .

علامة لونية تستفزها علامةلغوية
واخيرا الى لوحة غادة جمال.. فالمرء في ازائها كما لو انه امام لوحة حديثة تقرأ لونيا صور شعر حديث.. لوحة ذات مزاج هادىء لجهة الصنعة والدأب لكنه قاس لجهة اللون وتوزيع كتلة على السطح التصويري.. فثمة سطوة للبني في تدرجاته من الترابي حتى ما يكاد يصبح اسود يجاور الاسود الذي يحضر هو ايضا بسطوة .
وان كانت فكرة المخطوط وفكرة الرقاع غائبة عن لوحة غادة جمال فإن الشعر مستفز الى مخاطبة العلامة اللغوية بعلامة لونية تجريدية .

(جريدة "الحقائق"، لندن، 6-1-2004)