قد ينحو البعض، في الحديث عن "الكونية" أو "العولمة"، إلى القول بأنها مسألة متأخرة، بل راهنة، فيما أرى أنها قديمة ومتأخرة في آن؛ أي أنها – في اختصار وتسرع – ليست فنية خالصة وإنما تاريخية قبل ذلك كله. فكيف ذلك ؟

يقع الجواب على المسألة في ثلاثة محددات، أوجزها كما يلي : الحاجات، السياقات والتعبيرات. وهو ممكنٌ اليوم، أكثر من سابقه، ما دام أننا نملك مزيدًا من المعرفة عن ثقافات عديدة، بما فيها البعيدة في قدمها. 
الشعر قد يكون الابعد فيها، في الاجتماع البشري، بين احتياج منشد لما يقول، وبين احتياج جوق لان يكون منشدًا بلسان جمعي.  

يقع الشعر بعيدًا في الاحتياج الجمعي كما الفردي؛ ولم نعرف حتى تاريخه مجموعة أو قومًا لم يعرف الشعر صنيعًا في وجوده وتطلعاته. لهذا يمكن الحديث عن "كونية قديمة" بالمعنى الأنتروبولوجي للكلمة، على أنها كونية تاريخية ومتغيرة. هكذا طلبت الحديث عن أربع كونبات في هذه الورقة : 

 

بين الجن والراوية

لا نزال نفتقر إلى تاريخ متين للشعر العربي، حتى في قديمه، بدليل أن كشوفات أثرية على مسافة 150 كلم من صنعاء، للدارس اليمني يوسف عبد الله (1973)، أظهرت وجود شعر يرقى إلى نهايات القرن الميلادي الأول، في لغة غير عربية وسابقة عليها في جنوب الجزيرة العربية : يتعين هذا الشعر في أبيات ذات أعداد متقاربة في حروفها، ما قد يقترب من وزن؛ كما ينتهي كل بيت بتتابع الحرف عينه، ما قد يشير إلى قافية؛ إلا أن البيت فيها لا ينشطر إلى قسمين... أهذا هو أقدم دليل على أبعد صلة ببناء الشعر العربي ؟

(...).

يحلو لي التوقف، اليوم، عند لحظة تالية على هذا التاريخ، لكنها جديرة بالانتباه والدرس : لحظة إغريقية ذات صلة بشعر عربي قديم، في الجاهلية حصرًا.

 ما هي العلاقات التكوينية بين لفظ "الجن" في العربية وبين اللفظ الروماني-اللاتيني (genius) الذي ظهر في غير لغة أوروبية بعد ذلك، وله المعنى ذاته ؟ ماذا عن "راوية" الشعر الجاهلي، وعن (rhapsode) في التقليد الشعري الإغريقي، أي منشد الملاحم ؟

(...).

هذا ما يمكن التحقق منه أيضًا من ناحية المعنى والدلالة، حيث إن المعنى الروماني-اللاتيني يشير إلى : التابع، مُوحي الكلام وغيره؛ وهو ما نجده في تتبعنا لبعض معاني ودلالات "جن" في العربية القديمة (...).

هذا ما يمكن لدارس اليوم أن يجمعه، أن يلاحظه، في مدى المتوسط، بين ضفتيه، بين ثقافات لا نمتلك الكثير عن علاقاتها القديمة المتبادلة، فبما نتحقق من تلاقيات وتفاعلات أكيدة بينها. فكيف إن أسقط الخطاب نفسه بعض معالم الاستدلال نفسها ! فلو جرت العودة – ولو سريعًا – إلى الترجمات العربية القديمة عن الإغريقية، مثل ترجمة كتاب "البويطيقا" لأرسطو، لما وجد الدارس أي إشارة عن دور "الآلهة" في تدبير مصائر البشر؛ أي لن يجد أي كلام عن التمثل الوثني للحياة والوجود في التجربة الإغريقية. وهو إسقاط للوثنية، بالطبع، لكنه يشتمل معه إسقاط الكلام عن "الوحي" بين الآلهة والشعراء... لهذا وجب التساؤل : ما هو حال التواصل والتفاعل بين اليونانية والرومانية القديمتين والعربية القديمة، في تلك القرون المظلمة لجهة توافر الموارد عنها ؟

قد لا تكون هناك كونية بعد، إلا أن الأكيد هو وجود تراسل إغريقي-روماني-عربي قديم يتعين في نسبة الشعر – طلبًا لتعظيمه – إلى قوة ما فوق بشرية. وهو ما يجده الدارس، ليس في أخبار جنِّ الشعراء الجاهليين وحسب، وإنما في الكلام الكثير الذي نجده في الفلسفة الإغريقية حول أن الكلام الشعري "موحى" به من الآلهة نفسها؛ وهو ما لم ينقطع في الشعرية الأوروبية حتى هولدرلن وهايدغر...

 

دورة تداول إسلامية

مع ذلك يُجري الجاحظ تقاربًا ملحوظًا بين العرب واليونانيين وبين غيرهم، ما يرسم "كونية" جديرة بالتوقف عندها : «إن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، وفي تأسيس الملك، وفي البصر بالحرب؛ فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن يكون الله قد سخَّرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان منقسم الهوى، مشترك الرأي، ومتشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئاًا بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحِكَم والآداب، والعرب فيما نحن فيه ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في المُلك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً بأكفهم»، كما يكتب في  رسالة «مناقب الترك».

يتضح من هذا الحديث أن الجاحظ يرى في توزع المناقب والحذاقة على الأمم عللاً أوجدها الله فيهم، ودون غيرهم، بدليل أن هذا القوم برعوا في هذا الفن دون غيره، مثل اليونانيين الذين برعوا في الفلسفة، لا في التجارة ولا في الصنع اليدوي. وهو ما يفسر في حسابه اشتهار أمة بصناعة دون أخرى، وهو ما يُقدِّم لوحة واسعة عما كانت عليه حسابات الصنع بين الأمم : فالصينيون معروفون في الصناعات (اليدوية، من دون شك)، واليونانيون في الفلسفة والآداب، والفرس في المُلك، والأتراك في الحروب. كما يتوقف الجاحظ أحيانًا ليعرض في صورة أوفى أحوال كل صناعة عند بعض الأمم، مثل حديثه عن اليونانيين : «كانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فَعَلة؛ يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المُثُل ولا يُحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسُّونها، ويرغبون في العلم ويرغبون عن العمل"، مثلما يكتب في الرسالة عينها.

يعرض الجاحظ لأحوال العرب في معرض التفاضل بينهم وبين اليونانيين، وهو جمعٌ غير مفاجىء أبدًا، إذ إن الجاحظ ينظر إلى العرب على أنهم أقرب، واقعًا، من اليونانيين منهم إلى الصينيين. فهم أبعد من هؤلاء، إذ لم يكونوا مثلهم «فًعَلة»، عدا أنهم لم يكونوا تجارًا ولا صناعًا، ولا أطباء ولا حُسابًا، ولا أصحاب فلاحة أو زرع، ولا أصحاب جمعٍ وكسب، ولا أصحاب احتكار. وهم أقرب بالتالي إلى اليونانيين، إذ اختصوا بالآداب، و«وجهوا قواهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق الكلام وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وجازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر»، كما كتب في الرسالة ذاتها.

لا بجد الدارس عند الجاحظ شرفًا للعرب في أحوال الأمم غير الشعر. وهو ما يتأكد منه عند كثيرين غيره. والواقع أن الشعر العربي بقي من دون مرجعية له غير التي استقاها من الجاهلية، بل أسس عليها وفق احتياجات البلاط ومنافسات الشعراء ومن خلفهم النقاد.

لا يجد الدارس أثرًا أكيدًا في الشعر العربي تأتَّى من شعر أكثر من ثقافة ومجتمع إسلامي. فغير لغة حافظت على لغتها لكنها شرعت تكتبها بالحروف العربية، فيما اتكل شعراء فرس – حتى اليوم - على العروض العربي موازين لشعرهم. أما النُّخب في قرطبة أو سمرقند أو كابل وغيرها فكتبت بالعربية من دون تردد... يكفي أن نعود، اليوم، إلى الشعر الفارسي لنلحظ التأثير المتمادي للشعر العربي فيه، لجهة أوزانه وقوافيه : لو جرى التوقف، على سبيل المثال، عند الشاعر الفارسي فرخي سيستاني (من مواليد 360 للهجرة)، لتحقق الدارس من انه أقرب إلى أن يكون شاعرًا عربيًا، في المدح خصوصًا، حتى إنه لو طلب تشبيهًا للكَّرم لوجده في حاتم الطائي؛ عدا أننا نقع في شعره على تضمينات كثيرة للنابغة الذبياني وأبي تمام وأبي نواس. وأنهي بهذا التساؤل : أيمكن الحديث عن كونية عربية، بالمعنى الثقافي، لا تزال فاعلة بعض الشيء في غير العرب حتى اليوم ؟

 

مرجعية للشعر باتت ثنائية

بقيت هذه المرجعية فاعلة في المشهد حتى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، قبل أن تخرج عليها ابتداء من "الشعر العصري". هذا ما سبق أن درستُه في أكثر من بحث وكتاب، ولا سيما في كتابي : "الشعر العربي الحديث : القصيدة العصرية"، الذي استخلصتُ فيه التعبيرات والتغيرات التي باتت تفعل في الشعر العربي وتجعله ينخرط في ما لا يمكن تسميته بعد بكونية شعرية، إذ اقتصر الأمر، لا على مواكبة "لحظة" الشعر بوصفها "كونيته"، وإنما على تثاقف شعري قد يكون عنوانه الأبرز : الترجمة، مع رفاعة الطهطاوي وخليل الخوري وعثمان جلال وسليمان البستاني ووديع البستاني بلوغًا الى القرن العشرين.

يكفي الوقوف، عند هذه المقالة، للتأكد من أن الشعر العربي، ولا سيما الشعرية، قد دخلت في نطاق تفاعلي مختلف؛ وما كان مرجعيةً واحدة وثابتة وتمامية للشعر العربي (شعرية "العمود")، باتت تنحو صوب مرجعية جديدة، ثنائية، ولازمة، على الرغم من "إحيائية" بعضهم. ففي مقالة لنجيب الحداد ("مقابلة بين الشعر العربي والشعر الإفرنجي"، مجلة "البيان"، القاهرة، 1897، الأعداد 7-9)، يتمُّ الحديث عن "مقابلة"، أي مقارنة، فيما يتعين واقعًا في التداخل والتشابك بين الثقافتَين الشعريتَين. وهو ما لن ينقطع، بل سيقوى ويتعزز في تالي السنوات والتجارب : هذا ما يصيب بناء القصيدة، حيث تظهر موضوعات جديدة (الاجتماعيات، الوطنيات، الأخلاقيات وغيرها)، وتختفي موضوعاتها الأثيرة، أو تتحول : يصبح الشعر في "الوطن" بدلًا عن شعر المدح، على سبيل المثال... كما تتعدل مقولة "البيت قصيدة" لصالح ترابط مزيد بين أبياتها، فضلًا عن "هزهزة" وحدة الوزن في القصيدة الواحدة، ولزوم القافية، موحدة أو غير موحدة...   

لا يحتاج الأمر إلى تتبع مزيد، إذ طاوله الدرس في أكثر من كتاب وبحث، وأبان التواشجات الأكيدة بين مذاهب شعرية أجنبية (شعراء ومفاهيم)، وبين تجارب الشعر العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر. وهو ما ستتكفل به، لاحقًا، مجلة "شعر"، إذ ستقيم علاقات أنشط مع شعراء زمنها، فتتابع أشعارهم وتترجمها، أو تتابع إصدارات النقد الجديدة، عدا أنها طمحت، في بعض الأعداد، إلى إيجاد "مراسلين" لها، في فرنسا على سبيل المثال.

عايش الشعر العربي على مدى يزيد على القرن في انفتاح تثقافي أصاب الشعر وغيره. وقد تكون تجربة مجلة "شعر" هي اللحظة التي طلب فيها شعراء عرب استكمال الانفتاح السابق، من جهة، والشراكة في لحظة الكونية، أي راهن الشعر في زمنهم، من جهة ثانية.

 

لحظة "آنية"

لم أطلب مثل هذا التحقيب - السريع والمبتسر في آن - لذاته، وإنما أردتُ منه رسم سياقٍ أستبينُ فيه طُرق اندراج الشعر والقصيدة والشعراء في الكونية ومسائلها.

هذا ما بدأ منذ القرن التاسع عشر، كما سبق القول؛ هذا ما تمثل في خيارات شعرية أدت إلى انصراف الشعر العربي عن مرجعيته الوحيدة والأثيرة؛ وهو ما يحتاج إلى استبيان ومناقشة لازمتين، في ظني : دارت صراعات، وبرزت اختلافات في وُجهات التجديد الممكنة؛ وكان جليًّا أن الصراعات والاختلافات تنشأ بأثر من الكونية هذه، في نوع من الاستلحاق بها، مثل من يركض ليركب في قطار منطلِق. وانتهى هذا إلى أن يكون شعورًا بإغفال شعر الغير وإسقاطه : لتبيان ذلك، يكفي أن نتابع مقالات ومواقف مختلفة شددت على عدم معرفة العرب بـ"الملحمة"، على سبيل المثال، بعد أزيدَ من عشرين قرنًا على قيامها (...)...

لهذا بدا الاطلاع والانفتاح استعجالًا ولو متأخرًا، بل بدا لحاقًا بالركب... السوي بعد طول أسر وانغلاق أزيد من أربعة عشر قرنًا.

هذا التباين بين الزمن والشعر وسمَ انخراط الشعر العربي في نوع من الكونية المرتبكة، على ما أزعم وما أطلب درسه. فما تكون هذه الكونية ؟

اهتزَ العمود الشعري في هذه الكونية ذات السمة التثاقفية، واهتزَّ معه التقليد الشعري، اهتزازات بالغة. خرج الشعر عما كان عليه - بما فيه الشعر العمودي، خلافًا لما يظن شعراؤه ومريدوهم خصوصًا. أنواع الشعر القديمة انتهت، وما بقي منها تعدَّل وتحوَّل. لكن الشعر العربي تغير بدوره ولا يشبه غيره في الوقت عينه.

لم يكتب أي شاعر عربي "ملحمة"، على الرغم من مطولات قليلة عند بعضهم، مثل خليل مطران أو بولس سلامة وغيرهما. ويمكن القول إن تغيرات القصيدة العربية بين نهايات التاسع عشر ومطالع الستينيات في القرن العشرين لا تُشبه - وإن تَتَشبَّه - النماذج الشعرية الأوروبية التي تأثرت بها، من شعر بودلير إلى تي. أس. إليوت وغيرهم (...).

إلا أننا نعايش، اليوم، منذ عقود قليلة، كونية مختلفة، إذ تبدلت جغرافية التواصل والتفاعل عما كانت عليه. الشعر العربي وغيره منخرط في هذه الكونية الناشطة، حتى حين لم يطلبها : على الرغم منه ومن حيث لا يدري؛ فكيف إن كان يدري ويطلب وينخرط ! 

نعيش كونية مختلفة عن سابقاتها، نعيشها من دون أن ننتقل : حيث نقيم. حيث نعمل. حيث نقرأ. حيث نكتب. أنّى كتبنا...

لم نعد ننتظر العابرين فوق "طريق الحرير"، ولا نحتاج إلى الانتقال، ما كان يحتاج في السابق إلى قرون، أو وصول جريدة أو كتاب في قطار أو سفينة بخارية : المسلمون لم يعرفوا الورق إلا بعد ما يزيد على أربعمائة سنة على اكتشافه في الصين؛ والجبرتي وصف، في تاريخه عن حملة "الفرنسيس"، "العجلة" الخشبية في نقل الأحجار وغيرها، التي أتى بها جنود الفرنسيون لمعاونتهم في النقل، كما لو أحدًا يصف، اليوم، مركبة فضائية...

كونية، اليوم، مختلفة، لا تقوم على التعاقب والالتحاق والاستدراك وإنما على الآنية؛ لا تشترط وجود الترجمان الثالث أو الثاني، بل التواصل مباشرة أو مع ترجمان فوري على الإنترنت. بهذا المعنى أسقطت الكونيةُ الحاليةُ الظافرةُ الجغرافيةَ، من دون أن تلغيها، إذ أبقت البلدان حيث هي، وإن يتمادى تدفقُ "المهاجرين غير الشرعيين" في المتوسط، أو عبر جدار ترامب في الحدود مع المكسيك... هذا التعايش الجغرافي الموصول لم يُسقط تعقدات التاريخ بين الأمم والثقافات واللغات، وإن زاد التكلم بالإنكليزية عن غيرها، وباتت العربية لغة "منخسفة".

كونية، اليوم، لا تقوم على الفضول : في هيئة الآخر، في زيه، في طلَّته، وإنما على تكوكب الموضة (بالمعنى الواسع للكلمة) بلمح البصر : ما يَظهر في شوارع واغادوغو أو كيوتو أو حَلْق الواد عبر "بث مباشر" من عروض وواجهات الدائرة الثامنة بباريس...

كونية، اليوم، باتت تجعلنا نتعايش لزامًا مع بعضنا البعض.

نتعايشُه هذا الكون ملتقِين حول مائدة واحدة، ولكن في وضعيات مختلفة، وتبعًا لزوايا نظر متبانية.

ليست الكونية واحدة أو غالبة. ولا تكون إلزامية للغير فيلتحق بها أو يتبعها. إذ إنها عيش اللحظة، عيش الكون (أكثر من الأرض، وأبعد منها) شعريًّا.

عيش التسمية. عيش الانفعال بما هو حاملُ تموقعٍ ونظر.

نعيش العالم مع بعضنا البعض في صورة مزيدة، مكثفة، ما يجعل القصيدة بعيدة وقريبة في المشهد عينه : القصيدة قريبة، إذ يمكن أن تحاور المتلقي البعيد عنها، تبعًا لما تشتمل عليه من شواغل وهواجس، يتأتى بعضها من العيش الكوني المختلف. والقصيدة بعيدة، إذ تتكفل بها مبان تعبيرية، وربما تقليدٌ شعري خصوصي ومتباين، هو الحاصل التراكمي للفعل الشعري الخصوصي.

ما يتوجب التمييز فيه هو الخلط – الذي نلقى علاماته وآثاره في كثير من الكتب والمقالات العربية – بين "الكونية" و"العالمية" (كما يحلو للبعض تسميتها). يمكن للدارس أن يتبين، في خلفية مواقف بعض الشعراء العرب، وفي طلبِهم لـ"العالمية" – وعنوانها الترجمة إلى اللغات "المعتبَرة" – نوعًا من التكريس المنشود، والذي يتلون بألوان "الغزوة القبلية"، من جهة، وبـ"الدونية الثقافية"، من جهة أخرى.

هذا يعكس شعورًا بـ"الوحشة"، وما يتبعه من تعبيرات "المظلومية" و"الاستهدافات المبيَّتة" وغيرها. إلا أن هذا الشعور – بعيدًا عن صحته من عدمه – لم يؤدِ إلى بناء سياسات في الانتشار الثقافي أو الشعري، مثلما فعلت حكومة اليابان مع الأونيسكو، في سبعينيات القرن الماضي، حين قامت بصرف ميزانيات دعم لترجمة مؤلفات من أدبها إلى لغات ذات ذيوع كبير في العالم.

ما شعرَ به الياباني، أو الصيني، يشعر به العربي بدوره، لأن هذه الشعوب لا تمتلك مواصلات لغوية وثقافية ميسَّرة مع غيرها مثلما تمتلكه أوروبا، ووليدتُها أميركا، مع بلدان أميركا الجنوبية، على سبيل المثال. فكيف إن زادت على هذه المواصلات موارد أخرى مرتبطة بالقوة والرواج والتسويق وغيرها !

لهذا أطلبُ التمييز بين "العالمية" وبين "الكونية"، والأخيرة في حسابي عيشُ الكون كما هو وبما يتيحه، وطلبُ التفاعل مع الغير، بما فيه الحوار الفاعل والمنتج معه.  

يتحدث هايدغر عن (da) بالألمانية، أي "الهَهُنا"، وهو ما يمكن تسويغه ليكون العيشَ المتواقت والمنفتح مع الذات على أن الآخر بات جزءًا لازمًا منها، ومع الآخر بوصفه مختلفًا عن الذات. لهذا يستحسن الحديث، اليوم، عن "التضايف" (من ضيافة) بدل التعارف، وعن القربى بدل الزيارة، وعن التخفف من "إتنية" الثقافة لتوليد الوعد في الإنسانية.

هذا ما يقوى عليه التفلسف؛ وهذا ما يمكن أن تسعى إليه القصيدة في عيشها اللحظة على أنها بقدر ما هي متمكنة من أكيدها الإنساني والجمالي تكون متطلعة ومتنصة لدبيب غيرها الصامت أو لصراخه الضاج. فالقصيدة ليست حديثَ الآلهة لنا عبر الشاعر، أو جِنِّه، وإنما هي أصفى ما يصعد من ينبوع طفولتنا (وهو طفولة الأرض، بمعنى من المعاني)، حيث كل شيء لا يزال ممكن التوقع، وممكن الحدوث.

(أيام قرطاج الشعرية، 24-3-2018).