يكتسب الحوار مع الشاعر شربل داغر طابعا معرفيا لما يمتلكه من خزين ثقافي وأسلوب شعري مميز فهو من جيل أراد كسر حواجز قصيدة التفعيلة وسعى ليعيد إلى الشعر طابع الاحتفاء بالحياة ،هذا الشاعر اثبت لنا منذ مجوعته الأولى فتات البياض الصادرة في بيروت، عام 1981وما تلاها من مجاميع مثل “رشم” و“تخت شرقي”، و“حاطب ليل”،و“القصيدة لمن يشتهيها”ومجموعته الشعرية الأخيرة “دمى فاجرة”، اثبت بأنه يمتلك رؤية شعرية مختلفة تدعونا لنتحاور معه ونتعرف عن فهمه للشعرية وأرائه بقصيدة النثر وكيف عالج النقاد نصوصه التي تبدو عصية على الفهم ،مجلة الشارقة الثقافية التقت به لمعرفة كيف ينظر لتجديد الخطاب الشعري

 

= ثمة خط مختلف شعريًّا تأسس منذ مجموعتك الأولى، "فتات البياض" : أود التساؤل، هنا، عما إذا كان لهذا التأسيس تنظير مسبق يتجاوز مفهوم قصيدة النثر وروادها اللبنانيين أم هو استكمال لرؤيتهم في كتابة نص منفتح يوظف لغة خالصة لروح الشعر وعاطفته ؟

- هذا سؤال جوابه صعب من أكثر من جهة. أن تقول في شعري الأول إنه مختلف، فهذا ما قاله غير ناقد في السابق. ولو عدت بدوري إلى السؤال، فقد أجد في الكلمة التي تقع في خلفية غلاف هذه المجموعة الشعرية بعضًا من جواب... قد أجد ما كنت أنخرط فيه، وما أسمو إليه في الوقت عينه. تفيد الكلمة هذه (وأنا كاتبها) : "بين الجسد واللغة تنعقد هذه النصوص، فيما تستجمع ما تبقَّى من تهدجات الصوت في نسق الكتابة، وما تبقَّى من فتات الصمت في بياض العبارة. مع الشاعر اللبناني شربل داغر، النص يفارق أسلوبية قصيدة النثر كنوع شعري، مقفل بالضرورة، ليلاقي حالات الكتابة، أو الكتابة المتعددة".

لو طُلب مني من جديد، بعد هذه السنوات، أُن أقدِّم شعري لما كتبتُ ما سبق أن كتبته، لأن فيه وصفًا لشعري قد لا أجيزه اليوم. ولكنني أتمسك بالمقابل بما في الكلمة المذكورة من تطلع عالٍ للشعر، هو ما يشدني إليه، ويحفِّز طاقاتي.

لكن ما يدهشني، في الكلمة المذكورة، يقع أبعد من ذلك، في حسابي. وهو أنني أعلن فيها إعلانًا ضاجًا في تلك السنوات : إعلان خروج، وإعلان وجهة مغايرة. كيف أقدمتُ على ذلك ؟ لا أحسن جوابًا على ذلك. قد يكون لدرسي في الجامعة بباريس، واشتغالي على أطروحتي الأولى، ما ساعدني من دون شك في بلورة، بل في السعي صوب قصيدة مختلفة. هذا ما قلتُه وأعلنته، من دون أن أدرك تمامًا ما إذا كنت قد أنجزتُه في هذه المجموعة.

ما يحيرني ويستوقفني في هذه المجموعة هو قصيدتها الأولى، "فتات البياض"، التي ارتفعت عنوانًا للمجموعة أيضًا. ففيها أكثر من خروج عما هو معروف في القصيدة بالنثر (كما أسميها)، وفيها تجريب متعدد : الصفحة تنقسم إلى صفحتين، تعويل على السرد، حوارية تكاد أن تكون مسرحية... وما يستوقفني خصوصًا في هذه القصيدة هو انهمامي باللغة نفسها موضوعًا للقصيدة، والذي لم ينقطع في شعري اللاحق.

= أتريد أن تقول إن الكتابة المتعددة بدأت معك منذ تلك المجموعة الشعرية الأولى ؟

-أميز، كما تلاحظ، بين هذه القصيدة بالذات وبين باقي قصائد المجموعة. والتعريف على صفحة الغلاف الأخيرة ينحاز تحديدًا ويقوم بتعريف هذه القصيدة من دون غيرها.  وفي التعريف إعلان قطيعة وعدم انسجام على الأقل مع القصيدة بالنثر كـ"نوع مقفَل". طلبتُ لهذا النوع فضاء مفتوحًا، متعددًا. والتعدد، كما نلحظه في هذه القصيدة، يقوم على كسر نمطية السطر الطباعي، وأحادية الصفحة الطباعية، من جهة، كما يجعل القصيدة "تستقبل" أنواعًا كتابية مختلفة، من جهة ثانية.

هذا ما يمكن التحقق منه في مجموعات شعرية لاحقة، إذ إن بعض نصوصها انبنى وفق شكل الحوار الممتد، الذي يتخذ هيئات مسرحية أحيانًا. كما يمكن التحقق من استقبال القصيدة لأنواع كتابية متعددة، سردية وسينمائية وافتراضية وغيرها...

هذا ما يجذبني ويشدني ويمتعني في كتابة هذه القصيدة، ذلك أنني ألاحظ أن كثيرين ممن يكتبونها يستسهلون كتابتها، ويعاملونها وفق ذهنية عروضية في واقع الأمر، ولكن من دون وزن.

= إلا أنك لم تجبْني عن مدى تأثرك أو انقطاعك عن كتابة هذه القصيدة لدى شعراء لبنانيين في تلك السنوات ؟

- هذا سؤال صعب، وفيه شيء من الإحراج. يتوجب القول، بداية، إن كتابة هذه القصيدة لم تكن بالمتبعة في لبنان حينها، في مطالع السبعينيات، على الرغم من مكانة أنسي الحاج العالية والمنيرة. وهذا يعني - استنتاجًا - أن انتشار هذه القصيدة بعد ذلك، وتأثيرات هذه القصيدة خارج حدود لبنان، تعود إلى جيل ما بعد أنسي، وإليه بالطبع مع محمد الماغوط.

أما ما يباعدني عن شعر غيري في تلك السنوات وبعدها فهو أنني ابتعدت عن الغنائية، التي كانت تعلو في القصيدة السياسية الطابع لدى عدد من شعراء جيلي، وتعلو في قصيدة أنسي الحاج بدورها مع : "ماذا صنعت باللذهب...". أما الغنائية فتبدو خافتة في شعري، ومعدومة أحياناً، بحيث تتجه القصيدة صوب تناول مختلف، ونظرة مباينة، إلى ما تكابده القصيدة في تعبيراتها.

= أتخيلُ أن نصك الشعري لم يزل يقف مستلهمًا لحوادث الموت التي مرت بها بيروت. لهذا ثمة نزعة خوف من الموت، وتوظيف يحاول قهره ومجابهته. وهذا يجعلني أترقب نصك الشعري كونه يستدعي الموت في القصيدة لتجابهه قوة الشعر. هل لك أن تفسر لي رؤيتي وأنا أتلقى نصك الشعري وحمولاته الدلالية ؟

- الموت شغلني واقعًا منذ بداياتي الشعرية، ما دام أن الحرب استقبلتني بمجرد خروج الفتى إلى العالم. هذا ما انتبهتُ إليه بعد سنة على اندلاع الحرب، وبعد انتقالي للعيش والدرس في باريس. في حياتي الجديدة تنبهتُ كيف أن الموت لازمَني في بيروت من دون أن أعيره اهتمامًا؛ كما لازمتني خفَّة هي التي كنا نواجه بها الحياة نفسها... تعرضت للاعتقال أكثر من مرة، وأُبلغت قبل خروجي من بيروت بأسبوعين بأن "رأسي مطلوب"، فيما لم أكن أحسن إطلاق رصاصة.

خوفي من الموت عنى بمعنى آخر تعلقي بالحياة، بملذاتها، وبجدواها... لم أنقطع منذ ذلك الوقت، في أكثر من قصيدة، في أكثر من مجموعة شعرية، عن الحديث عن ثقافة الموت "الوطنية"، إذا جاز القول.  كما دارت غير قصيدة حول "الشهيد"، ولا سيما في قصائد تحمل عنوان : "دموع جافة"...

إلا أن الموت بات يظهر بطريقة مغايرة في مجموعتَين أخيرتَين من شعري : إنه الجار، الأليف، في جسدي، في مشيتي، في رنين القصيدة...

= هل تعتقد أن تحولاتك الشعرية وفَّرت للنقاد مجالًا خصبًا لتُدرس بالشكل الذي تتمناه - وأشير هنا لنقاد موجة الحداثة الشعرية، قياسًا بإقرانك من الشعراء اللبنانيين ؟ 

- لا أحسن جوابًا عن هذا السؤال، ما دام أنه يجعلني عارفًا بما صدر من درس نقدي عن شعري وعن شعر أقراني في لبنان. ما يمكن أن أفيدك به هو أن أكثر من دارس خصني بدرس مناسب، وأخص منهم بالذكر الدكتور مصطفى الكيلاني الذي كرس لي كتابًا بحثيًا شديد العمق والرصانة. كما جرى تخصيص أكثر من بحث محكم لشعري، فضلًا عن أطروحات جامعية عديدة، تناولتني شاعرًا أو ناقدًا للشعر، فضلًا عن قيام "أيام دراسية" حول جوانب من إبداعي في أكثر من جامعة...

عليَّ أن أعترف، بالمقابل، أنني أكتب نوعًا من القصائد يتجنبُها بعض النقاد أو الصحفيين، إذ إنها نصوص محيرة لهم، أو منافية لنوع الشعر الذي يطلبون. وهي نصوص تقوم على الحوار أشبه بالمسرحية من دون أن تكون مسرحية... وهي نصوص بدأت بكتابتها منذ العام 2005، وصدرت في أكثر من مجموعة شعرية، كما قام أحد كتبي الشعرية، "ترانزيت"، على هذا الشكل البنائي وحده.  

= ماذا عن هذه النصوص المختلفة ؟

- كتبتُ وأكتب نصوصًا لا أحسن الكلام عنها. أو أتقصد عدم الكلام عنها، منتظرًا من النقاد والصحفيين أن يتحدثوا عنها... قبلي وأحسن مني. ذلك أنها نصوص محيرة لي قبل غيري. أتحقق من الحاجة إليها، من حاجتي إليها أو من اندفاعي صوبها، من دون أن أتبين تمامًا دوافعها من مراميها.

هذه النصوص نُشرت مع مجموعاتي الشعرية، لكنها لا تملك تعريفات أو عناوين اصطلاحية تخصها أو تحددها. أهي نصوص مسرحية ؟ هذا ما أرفضه علنًا وصراحة، إذ إنني – وإن أستعرت من المسرح بعض أدواته ووضعياته – فإنني أبتعد عنه. هناك حكاية في كل نص تُروى بمعنى من المعاني، أو يتمُّ تداولها فيه، ما يقرب النص من المسرحية، إلا أن الحكاية مختلفة في النص هذا، لصالح حكايات أو أجزاء من حكايات، ليس إلا.

يبدو أنني ملزم، قبل غيري، بالحديث عنها. إذا كان البعض تجنَّبَها إذ كتب عن هذه المجموعة الشعرية أو تلك، فإنه لم يعد في مقدوري التملص من المهمة الملقاة على كاهلي بالتالي.

قد أجد لنصوصي هذه سببًا راجحًا في القصيدة بالنثر : في تاريخ تشكلها الأدبي، أو في أشكال كتابتها المحلية. فغير شاعر من روّادها في فرنسا، عاملَها مثل شكلٍ أو بنية "مفتوحة"، وهو ما نجده بينًا في الأشكال الأدبية المختلفة التي تخترق بنية هذه القصيدة عند رامبو، على  سبيل المثال، وهي أشكال الوصف والبرهنة واليوميات والسرد وغيرها.

قد أجد لنصوصي دافعًا أتحقق منه في تبرمي من قصائد بالنثر أقع عليها هنا وهناك في التجارب الشعرية العربية المعاصرة، وأرى أنها تنساق وراء بعضها البعض في نوع من الانقياد الواعي أو المضمر، فتكون بذلك منافية في حسابي لأساس هذه القصيدة – أساس نشأتها، وهي حريتها "الغازية". فقد استحالت هذه القصيدة إلى تجارب كتابية "متناسلة" من بعضها البعض، في نوع من التقيد العروضي المعكوس – كما يحلو لي القول باستفزاز مقصود.

هذه النصوص "هجينة"، بطبيعة الحال، لا مثلما يكتب عز الدين المناصرة عن هذه القصيدة عمومًا، هو الذي بدأ بكتابة هذا النوع الشعري، ثم حاد عنه... كما لو أن للشعر، للقصيدة، نظامًا "طبيعيًّا" يمهر نشأتها، ويثبت أصلها الأكيد، الناشىء عن ضرورة دامغة في الظهور والتكون، فيما الأدب – بل إنتاجات اللغة عمومًا – إنشاء اختياري، ذوقي، قيد العمل في تجارب الكتاب والشعراء.  

= ما تقصد بصورة أوضح بـ"الهجينة" ؟

- هي "هجينة" ما دام أنها تعوم في اللغة، في مائها الكتابي، حيث لا حدود مرسومة ولا ممكنة أساسًا. إلا أن "هجنتها" ليست مطلوبة منها، ولا مقصدًا لها. إنها ما تنتهي إليه، ما تنقاد إليه، ما يتحصل لها في الجريان.

أذكر أن نصي الأول في هذا النوع، "جثة شهية"، كتبتُه بعد اغتيال رفيق الحريري، في الصيف الذي تلا، في قريتي. ولما انتبهتُ إلى غرابة ما كتبت، ولما حادثتُ هالة عنه، أجابت : إنه "جثة شهية"... جرى حواري هذا مع ابنتي بالفرنسية، وأرادت بجوابها الحديث عن تجربة كتابية معروفة لدى السورياليين، والموسومة بالفرنسية : (cadavre exquis)، ما معناه بالعربية : "جثة شهية". هذا جعلني أرفع العبارة الشهيرة عنوانًا لهذا النص، خصوصًا وأنه يتحدث عن تابوت لجثة لا تقع الأنظار عليها؛ تظهر ولا تلبث أن تختفي في نهاية النص.

يمكن لأي دارس، اليوم، أن يتحقق من ورود إشارات وإحالات على تلك السنة، التي صاحبَها الإعلان-اليافطة في أكثر من جريدة أجنبية : "ثورة الأرز"، أو "ثورة 14 آذار" (التي حملت منذ ذلك اليوم عنوان حركة سياسية كانت دون تطلعات المليون وأكثر من الذين نزلوا إلى الشارع يومها). ما عناني في النص، انطلاقًا من حادثة الاغتيال نفسها، هو النزاع الناشب بين المتكلمين في النص، وقبله في الشارع. فبعض ما يقوله النص يرمي إلى إظهار أن القتيل "شريك" القاتل في فعلته...

وهو موقف مزيد يلتقي مع مواقف سابقة لي قد يكون عنوانها الأبين هو عنوان مجموعة من القصائد في "حاطب ليل" : "دموع جافة". وهو ما يخترق الكثير من مجموعاتي الشعرية واللاحقة، ويلتقي حول فكرة "نقد الشهيد"... هي مواقف لها صورة شعرية قديمة، ظهرتْ بعد خروجي من الحرب، من بيروت (1976)، في صورة الجسر الذي يعبره "الشهداء" في الاتجاهين من دون أن يتبادلوا التحية، فيما تغني فيروز لهم كلهم...

وهي المواقف عينها التي عبرت القصيدة الطويلة : "نميمة إلكترونية"، التي كتبت غداة 11 أيلول-سبتمبر في العام 2001، حيث الشهداء يتوزعون بين أميركيين وسعوديين ومصري ولبنانيين ومتفرجين بالملايين...

= أهي نصوص أشبه بتظاهرات ؟

- هذه النصوص "الهجينة" تشبهني، بمعنى أنني اتجهت صوبها، وطلبتُها مثل حاجة حياتية.

عبَّرت عن احتياجي إلى الخروج مما أعيش، ومما لا أعيش.

يوم 14 آذار-مارس من سنة 2005 نزلتُ إلى الشارع، في تظاهرة، بعد سنوات بعيدة على عدم اشتراكي في أي تظاهرة.

عودة متأخرة، استثنائية، إلى التظاهرة بعد أن كانت مسرحي الخاص مع غيري على مدى ثلاث سنوات في صيدا، بين 1968 و1970، وخمس سنوات في بيروت، بين خريف 1970 وربيع 1975.

غير مرة راودتني فكرة كتابة مقال، أو كتاب، عن التظاهرة، عن تنشئتي فيها، إذ كانت أبعد من التجربة، ما يشبه المدرسة الحزبية، والمدينية، ولكن في الطرقات...

كانت التظاهرة ما نستعد له أكثر من درس جامعي، ما ننخرط فيه مثل فعلٍ نبلغ فيه ذكورتنا العلنية، ما دام أن "النزول" إلى التظاهرة يستعيد في لفظه "نزول" العديد منا من أريافنا إلى المدينة. لم يكن نزولنا بالهين، ولا بالمريح، ولا بالسلمي، في شوارع المدينة التي استقبلتنا على الرغم منها، وخبطْنا خطواتنا فيها في نوع من الإبلاغ عن ضجيجنا العالي، عن رغبتنا في الظهور.

كانت يومها تظاهرتي الأخيرة كذلك.

إلا أنني قد خرجت منذ ذلك اليوم في أكثر من تظاهرة، وحدي، في شوارع كلمات. كتبتُ حينها مقالاً أقرب إلى الموقف السياسي منه إلى الموقف الأدبي، ونشرته في جريدة "النهار" بعنوان : "باقٍ في كلماتي"...

= ومع ذلك لا تقع نصوصك في التلقائية، فهي "مشغولة" وتخضع لعمليات كتابية أكيدة. أليس كذلك ؟

- بطبيعة الحال. القصيدة عندي ليست بوحًا، ولا أتسقط الإلهام أو أنقله من حالة معاشة إلى حالة كتابية.

القصيدة تقع قبل ذلك وبعده خصوصًا. هي اشتغال على اللغة وبها، على أنها مخترَقة بمعايشات وتأملات وأحوال.

وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها "الفايس بوك"، تبحث عن التفاعل الميسَّر أو الموحي، بضربات سريعة. هذا يعني الاستهداف العجول... القصيدة في ذلك تبدو مثل وشوشة على هاتف لحبيبة مرجوة؛ أو تبدو مثل دعاية لها أن تصدم أو تجذب سريعًا الناظر العجول إليها.

في هذا تفقد القصيدة لغويتها الكتابية، وتميل في صورة متزايدة صوب التواصل، صوب التكالم، ما له جمالية أخرى، ومختلفة.

لغة الشعر تبقى الأعلى في نظري، أي أنها ما يشتغل عليه الشاعر ويجدده. القصيدة مسبوقة بطبيعة الحال، بما أن لغتها سابقة عليها، إلا أنها، في نظري، ما يسبق الشاعر إلى ما سيكون فيها وبها.

= وأنا أطالع نصوصك الشعرية أتوصل إلى قناعة بأنك تقبض على الكلمات بطاقة "العارف" و"المتصوف" لتعصر مفرداتها من أجل وضعها في إطار حسي يتشبث به الشعر.

- يعنيني في القصيدة هذا التعالق، هذا التجاذب، بين التجريدي والحسي، بين التأمل والتجريب، بين الانهمام الوجودي واللهو الطفولي.

فالقصيدة تبقى في حسابي أبعد اشتغال لي في اللغة، وأعمق صلة بطفولتي، بعالمي الساحر والمبدد.

= إلى أي مدى يمكن أن تكون تنظيراتك حيال زمن الشعر وتبدلات القصيدة وتحولاتها البنائية في نصوص الشعراء العرب الذين وقفت عندهم بالتحليل والمتابعة النقدية قد وظفتَها في مجاميعك الشعرية ؟

- لعلي استفدت، في كتابة شعري، مما تذوقت منه أو تبرمت منه في درسي لشعر غيري. هذا ما أحسُّ به، من دون أن أفحصه. وقد يكون غيري هو الأجدر بهذه المهمة.

فالشاعر – كما كتبت سابقًا - "حبيب اللغة". وهو، في حسابي، يتبعُها حيثما تذهب به، على أن له فيها شأنًا، بل شؤونًا، ولها معه أكثر من وقيعة ومفاجأة.

(مجلة "الشارقة الثقافية"، العدد السابع والعشرون، الشارقة، كانون الثاني-ديسمبر 2019).