"قلما أكتب الشعر، بل امتنعت عنه أحياناً، وقد وجدت فيه ما يحرق أكثر ممّا يسعد، طالما أنني حين أضطرّ إلى كتابة قصيدة أو السعي إليها بالأحرى، وهو ما يحصل في غفلة مني، عن قصدي أحياناً، أجدني أشبه بسيزيف الذي رفع صخرته، حمله الثقيل متسائلاً في كلّ مرة: من أين لي أن أرفع الصخرة ومن كلّفني بهذه المهمة؟ ولا يخفف من أسئلتي هذه وغيرها سوى تذكري أني كتبت في صدر مجموعتي الأولى فتات البياض إلى شربل لئلا يصير شاعراً". هذا ما كتبه الشاعر اللبناني شربل داغر في ذيل كتابه الشعري الجديد "حاطب ليل" الذي صدر أخيراً عن دار النهار في بيروت بعد ثلاثة كتب شعرية هي: فتات البياض ورشم وتخت شرقي وبعد الكثير من الكتب التي هي بمثابة مسعى لتشكيل نظرية جمالية عربية. ولكن هل علينا أن نصدق شاعر في كل ما يقول؟ وهل في قوله ما يمكن أن يهدينا إلى الطريق التي تسلكها القصيدة وهي تراوغ متاهاتها؟ وبقدر ما نعثر في كلام الشاعر داغر من الاعتذار عن كل هذا الإرجاء الشعري الذي عاشه طوال أكثر من عشرين سنة بقدر ما تكشف كلماته عن نوع مفخم من الإحساس بجلال المهمة التي يؤديها الشاعر. فشربل داغر الذي بدأ مسيرته الثقافية شاعراً كان جزءاً من الوعد السبعيني الذي تبنته مجلة "مواقف" في محاولة منها لاستلهام روح جيل شعري جديد، غير أنّه لم يشأ أن يستمر في السباق، حيث اكتشف مبكراً أنّ السبعينات لم تكن سوى الجزيرة الخيالية التي وصل إليها الستينيون بعد كفاح وتضحيات وهم لن يتخلّوا عنها لسواهم أبداً. كانوا أشبه بالرجل الأبيض الذي وصل إلى أميركا والذي لن تؤخر وصوله إلى هدفه صيحات الذعر التي يطلقها الهنود الحمر أو سندات الملكية الخيالية التي يلوحون بها. وإذا ما كان داغر قد اهتدى إلى الكتابة حلاً وفكرة وخلاصاً فإنّ هناك غير شاعر من ابناء ذلك العقد الملتبس بين رخائه وأوهام بؤسه قد انتهى إلى الصمت النهائي. ولقد تصور الكثيرون أنّ داغر وبسبب عزوفه عن نشر الشعر (هل كان يكتب شعراً في تلك المرحلة؟) قد طلقه ليتفرغ للبحث الجمالي والعمل الأكاديمي وهو اليوم أستاذ مبرز لمادة الشعر العربي. غير ان هذا الرأي لم يكن ليعبر عن حقيقة المسعى الشعري الذي انطوت عليه مسيرة هذا الشاعر. فمن يقرأ ما كتبه داغر، نثراً، سواء في الصحافة أم في النقد الأدبي والفني، لا بدّ وأن تسحره اللغة التي يقتفي الكاتب أثرها وكأنه يستلهم لمعانها ويقتبس بريقها. وهي لغة تصدر عن حساسية شعرية مرهفة، لغة تذهب ابعد من مباشرة القول وإحياء الاتصال. كان الشعر يتسرّب من بين كلماته خفياً وخفيفاً، الشعر بمعناه الحقيقي، وليس ببنيته الشكلية، التي أشبعت تداولاً واستهلاكاً. وهي لغة أعادت إلى الكتابة العربية جزءاً من كرامتها وحريتها واستحقاقها في أن تكون لغة تعبير لائقة.
كانت لغة موغلة في ارتباطها بعادات الشعر من جهة نفوره وابائه وعزلته وتعففه واستغراقه وزهده. وإذا ما كان شربل وسواه من الشعراء قد اتخذوا في لحظة من لحظات اليأس والنفي والمرارة قرار الهروب من الشعر وتحاشي السقوط في مصيدته فإنّ قرارهم هذا كان يصدر عن معرفة بحقيقة الشعر، عن خبرة بما ينطوي عليه معاناته من عذاب وألم وشقاء. غير أن هروبهم منه لم يطفئ ناره. تلك النار التي بقيت تشتعل في قلوبهم وتلهب خيالهم وتثري حساسيتهم اللغوية. فكان النثر الذي كتبه شربل وأبناء جيله بؤرة التقى فيها توتر الشعر بليونة واسترخاء السرد النثري. وكان أن طرأ على حياتنا الأدبية نوع جديد من الأنواع الأدبية هو الابن الشرعي لتجربة شعراء هاربين من الشعر. وهو في الوقت نفسه تتمة لمسيرة النثر العربي (جبران مثالها) التي انقطعت مع ولادة الشعر الحديث. وهي مفارقة قلما انتبه إليها الباحثون. ولقد أعطت تجربة العودة إلى النثر أكلها في كتابات الناثرين اللبنانيين، الذين قلما لم يكتب أحدهم شعراً. وسيكون لزاماً على من يدرس تاريخ الأدب العربي الحديث أن يتريث أمام هذه المرحلة ليمعن فيها النظر، كونها علامة تحول. وليس ما كتبه شربل من نثر سوى مرآة لما انتهى إليه النثر العربي من حيوية ولمعان وسحر على أيدي عباس بيضون وبول شاوول وعبده وازن وعقل العويط، وقبلهم الشاعر الكبير أنسي الحاج. هؤلاء الشعراء الذين أغنوا النثر بكشوفات الشعر اللغوية وقدرته على الوصول إلى الخلاصات بأقل هذر ممكن، وبأغنى حساسية ممكنة.
ومع ذلك فقد لا يكون كل ما قلته مدخلاً مناسباً لقراءة "حاطب ليل" الذي هو بالتأكيد أكثر براءة من أن يكون خلاصة لمكيدة، أو فعلا احتياطياً. لقد كان شربل داغر شاعراً مؤجلا. وكما أذكر فقد تحدث الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف ذات مرة عما أسماه باحتياطي الشعر. وهي تسمية تشعرني بقدر من الثقة وأنا أعيد شربل داغر إلى سيرته الأولى: شاعراً مرجئاً وخبيئاً، شاعراً لا يعنيه من الشعر سوى أن يلتقط ما يتساقط من الكلمات من لمعان ليختفي مسرعاً، على رغم أنه يبدي اهتماماً لاقتاً بالموضوع. غير أن اهتمامه هذا لا يصل إلى مستوى سعيه الدؤوب لنفض الغبار عن جملته. ذلك السعي الذي تجسده النظرة الحاذقة. وهي نظرة لا تبقي من الشيء إلا علامته. وشربل الذي مرن بصره طويلاً على رؤية الرسوم الحديثة لا يخطئ هدفه.
إن الشاعر، هنا، يستعين بالشعر كونه علاقة وهمية يكسر من خلالها حدود الواقع. إنه يرهن الوقائع المرئية والمعاشة لما يتحرك في أعماقها من احتمالات خيالية. إنه يصنع من طريق الشعر حياة افتراضية يأمل من خلالها أن يجعل الحياة المباشرة ممكنة أو على الأقل محتملة. وهو بذلك إنما يقع فريسة لحلمه في أن يكون رساماً: ذلك الرجل الذي يستولي على ما يراه ليعزله عما يحيطه وينفذ إليه من جهة كونه قاصراً عن التعبير عن حياته، ليعمر هذه الحياة بما يراه مناسباً لها من المشاهد الروحية. وهي مهمة تتطلب مزيجاً من الطيش والأناة، من العجلة والصبر، من العاطفة والعقل. لذلك غالباً ما يلجأ الشاعر إلى الوصف، رغبة منه في تشييد مشهد هو مزيج من الذهني والبصري، مشهد قد يقع وقد لا يقع، لكن حدوده تظل خارج الاحتمال البصري المباشر. مشهد هو أشبه بما يقترحه الرسام التجريدي التعبيري من مشاهد صادمة تكون بمثابة الوجه التصويري للقاءات غامضة تجري بين الانفعال المباشر وتفجرات الأصباغ:
تلدني كلماتي
بما لا يسعه قماطي.
وهو ما يعبر عنه الشاعر نثراً، وهو يجازف بوضع تعريف للشعر حين يقول في ذيل كتابه: "الشعر هو الميدان الذي يمتحن فيه الشاعر اللغة. يمتحن فيما يجدد ويغير إمكاناتها في القول، طالما أن غيره يستعمل اللغة وحسب ويوظفها في عدة تعبير، ليس إلا. وهذا يعني أن حياة اللغة مستوفاة أو متحققة طالما أن الشاعر يجدد الإقبال عليها بطراوة المبدع الذي لا يكتفي باستعمال اللغة مثل زينة أو حلية كما في عهود الانحطاط، بل بنحتها وتكثير دلالاتها وتقوية تعبيرها.
هذا الامتحان اللغوي لا يمكن أن يعبر إلا عن خبرة العصف التي هي وليدة تلك اللقاءات غير المتوقعة بين المعنى والشكل. فشربل داغر يظل حريصاً على المعنى، حتى في أقصى حالات الالتباس والغموض والتي غالباً ما يكون مصدرها الإمتاع اللغوي والخضوع لحساسية الوصف.
في غير قصيدة من هذا الكتاب الشعري الناعم والممتنع في الوقت نفسه تحضر الصورة وكأنها تكتفي بنفسها، لما تنطوي عليه من إغراء لذائذي تحققه من طريق لغو شديدة التقشف، زاهدة بحواشيها، ماضية إلى حافاتها لترينا الجميل في عزلته، الجميل النابت لتوه في الهوة التي تصل وتفصل في الآن نفسه بين الكلام والواقعة. فهناك دائماً واقعة تهبط فجأة كما صورة تنبثق من العدم. وهي صورة لا تزيح شيئاً عن طريقها، ولا تحيلنا إلى ما يمكن أن يذكرنا بها، أو يؤهلنا لدخول حلبة سباقها. وحتى السرد -وهو غالباً ما يغذى الوقائع بحدسه الخفي- فإنه لا يشكل إلا مشهداً متوتراً، مشهداً لا نرى منه إلا لحظاته المشدودة إلى أقصاها، حيث تشكل الأسئلة مادته التي تصنع إيقاعه المتدافع:
أهو بيتي، ويلفظني
إلى حافة
أسترد فيها خطاي
بأيد مذعورة؟
وانسجاماً مع تماهيه هذا مع المفاجئ والغريب، فإن داغر قام بحذف العنوان عن معظم قصائد الكتاب لئلا نضع أقدامنا على عتبة تمهد سبل الدخول إلى القصيدة. وبدلاً من العنوان لجأ إلى خدعة كتابية، حيث كتب السطر الأول من القصيدة بحروف أكبر من بقية السطور، ليظن القارئ أن هناك عنواناً. غير أن هذه الخدعة سرعان ما تنكشف، ليعرف القارئ أن العنوان ليس سوى السطر الأول من القصيدة. وأنه دخل إلى القصيدة فجأة، من غير أن يحتمي بمتراس العنوان.
وهو ما يريده شربل داغر حقاً: أن تكون القصيدة قوامة على نفسها وأن يقبل القارىء عليها كمن يقبل على مجهول.
(جريدة "الحياة"، لندن، 28 حزيران-يونيو 2001).