مي منسى : كسور الزمن وما يحرق ولا يُسعد
قد تبدو قراءة الشعر أحياناً أشبه بدخول عالم وهمي من غير دخول. أي يبقى المغامر عند موطئ القصيدة، خارج أسوارها، يترصّد إيماءة، كلمة عبور تمنحه حق التنقيب في حميم ترتيبها وربما حق الاستيطان في قدرها.
"حاطب ليل" قصيدة شربل داغر الصادرة عن "دار النهار" وعلى مسافة زمن من ديوانه "رشم" و"تخت شرقي"، ليست للسمع الشفهي. إنها كقراءة متكررة، لسعي جدي من أجل اختراق جدارها واكتشاف جسد الكلمة المتغلغل في روحها، وإكمال المشهد المفكك. حتى إذا تمّ التواصل بين قارئ وشاعر بانت من ابياته رؤى حديثة ودروب جديدة تستعير من القصيدة القديمة صدى إنسانياً مجبولاً بصدى الأرض والحجر يجعلنا نؤمن بالشعر وبرسالته الواقعية.
في مرحلة أولى من قراءة كلمة شربل داغر، لا البيت في أكمله، ولا القصيدة كاملة، كرشفة ماء، يبدو الشاعر في حال من امتحان الذات كأن الشعر، وقبل أن يتحول إلى بوح، إلى ذاكرة، إلى كسور، هو ذاك الميدان الذي يتحرّر فيه من عتيقه مجدّداً في القول والتعبير، مكتشفاً في الانصهار الجذري بالكلمة كم من الروافد في وسعه أن يحول إليها مجاري نهره.
وبعد الامتحان، نلمحه والكلمة في حال من الافتتان، من الاحساس الفريد الذي يؤكد رياح الغربة التي تلفح ضلوع القصيدة وليل الشاعر ولا يقاومها. فغربته المنقوشة في الحجر في الغبار، في السفر، هي درب من يحج إلى بدائيته الاولى، إلى ذوبانه الأسطوري بحصى الأرض وحروق الشمس.
قلّما أقرأ شعراً. فراغ البياض يضعني تلقائياً في سدّ الفجوات. وتلك العموديات اللامتساوية، المفككة حجارها بعضها عن البعض، تعوق خطواتي وتسربلها. فلطالما آثرت السير في رحاب الدروب الأفقية ولا أتعثر، حتى نقطة النهاية.
"حاطب ليل" أسرني. العنوان أولاً. فكلنا حاطب ليل نفرغ على وسادة الندم أوهامنا وقلقنا وأحلامنا، فيختلط الأرق المزمن بالهلوسات السوداء، وفي سعيي إلى اختراق عالم شربل داغر، الليلي، وجدتني في عالم "جواني" تقال فيه أشياء الحياة بكلمات نظنها سهلة، طرية، في حين أننا في احتكاكنا بها نستطعم نكهتها العجراء ونلمس جسدها الخشن، وعبارتها الجديدة على السمع، المولودة في مختبر حاطب يركّب كيميائية كلمته وهو يتقلّب فوق سريره ورأسه على وسادته يضجّ بحصى الكلمات وإيقاع رجرجاتها إن استوت على ورقة وسيطة بينه وبين القارئ.
يوميات مسافر داخل جلده، يرى العالم وهو منه، بحذافير اللحظة. كعدسة فوتوغرافية تلتقط المرئي والمخفي انتباهاً يعيد شربل داغر تصوير الأشياء ليخرجها من نسختها الموجبة فتبدو في سلبيتها أكثر نطقاً وشفافية وارتعاشاً. هكذا تبدو لي غربته. يبتعد عن الناس ليراهم أوضح. يتراجع فتنجلي الصورة وتظهر في عريها وانقشاعها.
"هذه الارتجافة / في الشفة السفلى / رسالة / وإن تداخلت فيها الحروف / لها في جسدي / ريشة / حبرها / وصورتها الأخيرة / الذي أغار منه / من فرط انتظاره لك".
تلك الغربة التي تجعل الشاعر أكثر روحاً، وأكثر مساماً، وأوسع نظراً نادتني إلى قصيدته. إنّها التأشيرة إلى الصدى الكلمة، إلى الواقع الذي تحفزه في وجدان القارئ ولاوعيه، يرابي عليها هواجسه وأموراً مماثلة ظنها في القصيدة منه وله، حتى انتحال قدرها، كأن القصيدة قصيدته. كأنها غربته.
تحت أغصان شجرته، تكر صور من حنين، تومض على دروب القصيدة العمودية فتتآلف معها بعد التدجين، نهبط في تعرجاتها أو نتسلقها لا فرق. تصبح ملك كلّ قارئ إن أحسن التمري في طلائها المتصدع، إن استخلص من خلف الوجوه والمرايا والوحشة الجاسمة على كتف كل كلمة، لحناً رتيباً موروثاً باقياً بين تجاعيد الذاكرة لا يرحل. هو صدى القصيدة الذي نتلقاه في بدء تنقيبنا في تربة القصيدة. الصدى المتسرب من النشيد المكبوت في ضلوع الأبيات، في عمود القصيدة الفقري، الغائر كالينابيع الجوفية وما يشبه "احتكاك الحجر بالحجر".
لم يختل شربل داغر بعالم وهمي يربي في تربته شعره. من ذاك المعيش حاضراً وذاكرة يبني قصيدته، يبغيها في مختبر الحياة اليومية، يراهن على واقعها، المر، الفج.
وقد يكون الكومبيوتر للشاعر عكس حاطب ليل: "قعدة لاهية، متراخية وكسولة في بعض لحظاتها، وفيها شيء من التربص في لحظات أخرى". وفي كليهما، كتابة على ورقة أو "العزف" على أزرار الآلة. تركيز يستنفد، في قوله، طاقة لا تعادلها طاقة في شواغله الاخرى.
"ما يدلني إلى الكتابة ويجعلها لي سلوى، جدواها فيها، في القيام بها، في كونها تبرّر نفسها بنفسها. في أنها عمل تحويلي وإن بدا عليه التكرار، لأشياء تبدو خافية عني وهي مني". من اللحظة التي تولد منها الكلمة وتنبعث، تتفاعل قوة التنقيب في أسرارها زائلة أو مدعوة إلى الأزل.
الزمن له كسوره في كل بيت من قصيدة شربل داغر، نيّر وخافت، ملتهب وشحيح، يحوله في صيغة الزمان إلى المكان ومن اللاشيء إلى مادة ملموسة:
"سراجنا يتثاءب على فتيلته / وصبرنا أقوى من نوره / إذ نسكن في دواخلنا، لا فيه / في جعبنا المحمولة / نبسطها خياماً / وإن في بيت من حجر".
تلك الومضات السرية، المنبعثة كلمات، هي التي تراهن على العلاقة بين الحدث اللاملموس والحدث الملموس، بين الشاعر وصوته، بين الصوت والكلمة. الصوت الذي يتدخل في الكتابة المقروءة تحديداً للهنيهة، ويتعذر تحديده. لأن يسمعنا بصوته الكلمات في حضورها المتماهي في الزمان، المؤنث في المكان. نسمعه كنشيد يقوى على الأحرف ورصفها. اسمع الشاعر منتشياً في إلقائها، محرّراً اللغة من وظيفتها وعقلانيتها لتغدو في جوهرها قابلة للتنقيب في الذات والوجود، تتحاكى، تتهامس، تتحاور، تتعارض وتظل الفكرة والقصيدة في اتحاد على السلم العمودي المتسربل بأبياته اللامتساوية وحجاره المفكّكة، وكأن داغر لا يبحث عن وقع الكلمة، عن إيقاعها، بل عن جوهرها، عن تلك المادة اللامرئية في قلب الصخر، المحتفية تحت قسوته، النابضة داخل كتلته، تمنحه الجاذبية مع الكون وتضمن له البقاء والليونة.
في كلمة كتبها في الصفحات الأخيرة من ديوانه يقول: "قلما أقرأ شعري، قلما أتلوه بالاحرى في لقاء، في حشد، لأن في تلاوته ما يربكني. هي قصائدي لكنّني بدل أن أقدمها لغيري، أزورها على شيء من الغرابة والدهشة". ويضيف: "قلّما أكتب الشعر وقد وجدت فيه ما يحرق أكثر ممّا يسعد، طالما أنني حين اضطرّ إلى كتابة قصيدة أجدني أشبه بسيزيف الذي يرفع صخرته، حمله الثقيل، متسائلاً في كلّ مرة: من أين لي أن أرفع الصخرة. ومن كلفني هذه المهمة؟"
(جريدة "النهار"، بيروت، 2 حزيران-يونيو 2001).