مي منسى : الشاعر بين القول والتجربة
يخيّل إلى قارئ شربل داغر في مجموعته "تخت شرقي" أنّه لا يقرأ. الكلمات تتماهى في حالات لا يلمسها إلا المنصتون إلى حذافير الهواء، إلى ظلال الضوء، إلى كيميائيات الحب، إلى الأصوات لا إلى مصدرها، وكما يقول "تبلغنا الأصوات ولا نبحث عنها". كأنّي به في صفحة إلى أخرى من سطر إلى آخر التقط نيازك ما أن تومض في كفّ ذاكرتي حتى تتوارى تاركة نكهة مذاق مضى، أو أثراً في مسام لحم له ذكرى القشعريرة ولا ندرك أسرارها.
قبل القصيدة ثمّة الكلام عنها، والشاعر في حال مخاض يراسل الكون منخطفاً بعناصره، حتى إذا أقبلت القصيدة على الولادة يكون هو من عناصر ذلك الكون، من رياحه وموسيقاه، من مياهه، ومجاريها، من لهبه وجليده، ذائباً، منسجماً في جوقة كوسمية تعلو في رحاب الله صوتاً واحداً: الحبيب والحبيبة، الكائن وصداه، الماء وزبده، الشهوة والاحتفال الروحي بها، إنه مولودها.
شربل داغر قصد دار القصيدة وبحث في حناياها، في المرئي واللاملموس، تشغله معجزة خلقها، وحضورها على حين غفلة قال: "الشعر فعل يقع قبل الوعي، أشبه بالعبقرية المحض، وفق نزوعات باطنية لا يدركها حتى الشاعر نفسه".
قبل قصائد "تخت شرقي" سعيت إلى المقدمة تهديني إلى موسيقى تخته وكذاك النشيد الذي نجده في مناخات كلّ بيت وقصيدة متغلغلاً في ينابيع جوفية تراضي الروح لا طرداً للسمع.
قرأت المقدمة كبيان يكشف النقاب عن القصيدة، يعريها من نزوعاتها وهواجسها، فإذا بها تحرك ذاكرتي على لمامات من مقدمة وضعها بول اليوار عام 1950 تحت عنوان "أول أنطولوجيا حيّة في شعر الأمس" قال فيها ما معناه أنّ الإنسان لا يكون شاعراً أو قارئ شعر من دون تلك الذرة القليلة من البطالة. الفراغ والوقت المعطى للتأول والحلم هما اللذان يرهفان السمع لتلقي الحقيقة.
وممّا قاله الشاعر داغر في مقدمته أنّ "الرغبة بالقصيدة هي أن يقول الشعر لحظات، أحاسيس، صوراً تتعدّى العلاقة الخارجية لقول شيء يقع في التجربة، في الاحتكاك، في ألفاظ الحركة ونزوعات الجملة (...)". على ضوئها ندخل بياض القصيدة ورماديتها و "الرغبة بها" سبيلاً "يفضي إليها من دون أن يقصدها أو يبلغها من دون أن ينتهي فيها".
يقول الشعر لحظات، أحاسيس، قالها داغر في مقدمته ونقطفها فوراً في القصيدة "وما أن أرسو/أبحر/ وما لي بوصلة ولا تواقيت لي وحسب هوس الترحال / كأن له تقاسيم/ تستقيم في تكرارها/ وتنتشي تباعاً".
ما معنى هذه الكلمات إن لم نسمعها تقترن بصوت شاعرها؟ صوته يخاطب القارئ قبلها، يعرفه بها، يتقدّمها على سكّة الأبيات غامضاً، متنكراً وراء عريه، ليخرج من ليله راوياً، صامتاً بين القول والتجربة المعاشة.
سرّ الشاعر في قصيدته العارية في المشاريع السابقة، بشعرها المسترسل حرّاً، تلقائياً لا مزيناً بأفكار جاهزة، سرّه في تجربته، في احتكاكاته بروع الملموس وبقشعريرة المحسوس، حتى إذا قرعت باب الكلمات اختارت ما ينسجم وعرس القصيدة.
نراه في تأمل بالزمن وتحوّلاته، الزمن الحاضر والماضي، وعيناه مغمضتان لرؤية أوضح. شاعر يصبح هو القصيدة وما يضمره لها من بقاء وخلود.
"لم يبقَ لي غير أن أمضي / لكنّي أطيل الوقوف حتى تنجلي الصور". قصيدة شربل داغر هي روح الحب قبل لمسه، حتى النشوة قبل الشهوة، هي الحبور في الاستمتاع بذرة كلّ لذة من اللذات التي لا يكتفي الإنسان المصغي إلى مفردات الكون بمرئيها ولامرئيها ليكتشف معجزة تكوينها وتكرارها. "أهزج كلّما اصطفت ورقة بأخرى / وأخال الأغصان صفا من منشدين ويدخل بعضي في بعضي / في التحام راقص".
حين تطول قصيدته تصبح الومضة سرداً مواكباً لعابرين على سكتها، نشيداً كونياً يحتفل فيه الشاعر بذاك الرباط بين الخفي والمنظور من غير أن تتّخذ الكلمات الخطاب الشعري، بل تبلغ سمعنا لينة، من مفردات أيامنا، مع الفارق المحسوس بأنها لم تطأ عتبة تصوّراتنا.
في مقدمة كتابه كتب شربل داغر: "إنّ الشعر بدء، وإن يتمّ استلحاقه، فتحٌ لشهية الكلام وإن كانت له تقاطيع زمنية تجعله حوارياً في جدل قيم ورموز وخطابات".
من هذا الكلام نترصّد الأصوات الداخلية تلك التي تحوك حول "الأنا" العلاقة بين الشاعر واللغة الشعرية. "الأنا" التي تصنع من القصيدة الذاتية مدافعة لا إثباتاً لحال عابرة. تلك "الأنا" مرت مراراً من قصائد شربل داغر حين يتتوأم مع ذاته، حين تصبح "الأنا" مرآة تعكس وجه الآخر وقلقه: "هذا الذي يسير إلى جانبي / لا يحادثني / لا يبادلني التحية في الصباح / يشتري الجريدة نفسها / يمزّقها في وجهي / ويمضي / إلى المقهى / ينتظرني".
حال الشاعر مع نفسه كفصام الأنا مع الأنا، كأمحاء الأنا، في نبرة من التساؤلات: "أعليّ أن اسافر كي أجد نفسي؟".
الرسالة التي يبعث بها شربل داغر عبر قصائده، تكمن في الانسجام الذي ترشحه وتبثه، حتى كأنّنا نشهد مع كلّ كلمة عملية تقطير لخواصها نرشفها قطرة قطرة. الشاعر على بيّنة من هذا الانسجام ومن مفعوله الواقعي على القارئ. فالقصيدة مهما طرقت فوق الجاذبية الأرضية تلبث لها جذور إنسانية نفتقدها في كلّ بيت.
شربل داغر التقط سرّ الانسجام ودوزنته في كتابة بدأت في نظام الكلمات قبل أن نتناولها في نظام نبضات القلوب. شاعر له إطلالة وجسد، لكنّه حين ينصهر في تأملات قصيدته وقدرها يتماهى جسده ويتبعثر في العناصر التي يتأملها. "إنا فيك / أنا معك / أشد إبلاغاً / وتعرفاً عمّا يمكنني أن أكون".
هذا القائل "من أين لي أن أصفّف يومي في مفكرتي" ينطوي حتى الغرق في لهاث الأشياء.
الطبيعة برياحها، بأشجارها، بمائها، بأزهارها متكأ لأحلامه، يقطف من ومضاتها عبارات شفافة، مائية سائلة، عطرة، حسية تمتصّها قصيدته في ارتعاشات الكون لا في امتصاص "أنا" الشاعر للكون.
أعود إلى مقدمته، ومن ختامها أختتم هذه القراءة لـ "تخت شرقي" يقول: "الشاعر صياد في ماء الصدفة (...)".
(جريدة "النهار"، بيروت، 10 آب-أغسطس 2000).
***