خروج القصيدة من الواحدية التمامية
قد لا يحتاج الشعر العربي الحديث، ولا شعراؤه، الى تكريم مقدار احتياجهم في صورة مؤكدة الى الدرس- وهو أفضل التكريم-، الى درس مزيد ومتعدد المقاربات والسبل المنهجية، سواء في اجماليه او في بيئاته المختلفة. ذلك أننا لو استعرضنا واقع هذا الدرس لوجدناه دون ما بلغته هذه المغامرة التي بلغت توصلات وانجازات تجعلها حاملة تعبيرية عالية عن الانسان العربي في وجوده.
أوجه التجديد
وقد يكون الدرس التاريخي لهذا الشعر أفقر هذه المساعي المنهجية، بفعل اجتماع عوامل مختلفة، منها خلوص النقد العربي نفسه الى اللسانية بتوجهاتها المختلفة التي أبقت النص وحده، بعد أن أخرجته من السياق ووضعته فوق طاولة الدرس وفق علاقة وجاهية بين النص والدارس. ومنها ضعف الممارسة التاريخية نفسها، حيث ان المسعى الخبري لا يزال قرين التذكر، أو الجمع، أو التأويل الأسطوري و«الشعبوي»، من دون التناول العقلاني له، الذي يقرنه بمعاينة الوقائع وبتعليل أسبابها. أما المقاربات الاجتماعية للشعر والقصيدة فتكاد أن تكون غائبة بالكامل، ما يعزز تفسيرات نقدية سارية تمحض الشعر والشاعر صفات خارقة أو عبقرية، وتنسب الشعر - من جديد- الى أعمال الجن فعلاً، طالما أن التفسيرات هذه لا تنزل القصيدة في منازل العمل الاجتماعي الذي يتدبره البشر، ومنهم الشعراء أنفسهم.
وجبت، وفق هذا الكلام، العودة الى وقائع الشعر والبحث عما يوجبها، ولا سيما في تغيراتها؛ وهي تغيرات لا تقتصر- وإن تتعين ظاهرياً ووقائعياً- على شؤون تقنية او عروضية او بنائية، إذ تعبّر عن اعتمالات أوسع منها، وفي حراك تاريخي عام. وهو الحراك الذي وضع الشعر، بعد طول احتكام الى مرجعيته المخصوصة، طوال قرون وقرون، في وضعية التغاير التي أوجبتها شروط المثاقفة الواجبة مع أوروبا الغازية والساحرة في آن. حتى ان كاتباً مثل رفاعة الطهطاوي أغوته الأشكال الفنية العديدة في الشعر الاوروبي، وتحقق من أن الشعر لا يقتصر على »عمود« متوارث، بل هو قابل لصياغات مختلفة.
لهذا وجب البحث عن تاريخية لتجديد الشعر العربي تقع في إطار التثاقف، وهو ما تحاشاه كثير من النقاد مكتفياً بملاحظة التغيرات الشكلية وحسب في مبنى القصيدة العربية. فغير ناقد، وغير شاعر عربي كذلك، نظروا الى تجديدات نازك الملائكة وبدر شاكر السياب على أنها الاولى، ثم تتالت التصويبات والتصحيحات، سواء في العراق نفسه، او خارجه، والتي كشفت على أن سبيل التجديد العروضي (أي الخروج على بناء البيت المتناظر ذي القافية الموحدة واللازمة) سابق، بل متعدد، ما يشير الى أوليات مختلفة. هذا ما قام به النقاد والشعراء أنيس المقدسي ويوسف الصائغ وسلمى الخضراء الجيوسي وسامي مهدي وس.موريه وغيرهم، ممن كشفوا عن تجديدات سابقة، سواء عند المهجريين او أمين الريحاني أو جماعة أبوللو أو الشاعر الأردني عرار او نقولا فياض وغيرهم الكثير. ويمكننا- لو شئنا- استكمال مخطط المراجعة التجديدية هذه، إذ تحقق لنا أن التغيير في ترتيب العروض وتنويعه سابق على القرن العشرين، ويعود الى تجارب القرن التاسع عشر، في قصائد أعداد من الشعراء «العصريين»، من أمثال خليل الخوري ورزق الله حسون وغيرهما.
وقد يكون من الأنسب كذلك البحث في طبيعة هذا التجديد، أو في أوجهه المختلفة. ذلك أن النظر النقدي- المتأخر خصوصاً- جعل التجديد، كما مع نازك الملائكة، ظاهرة عروضية مستحدثة ليس إلا. وهو فهم يستدعي عدة تدقيقات؛ منها النظر الى مسألة العروض خارج المنظور القالبي الذي حكم نظرات العديدين من النقاد والشعراء الى التجديدات هذه: فلقد جرى الكلام عن كسر العروض، أو عن تنويع القوافي وحسب (وهو ما أسميه بالنظر الى الشأن القالبي فقط)، من دون النظر الى مفاعيل هذا التغير العروضي على المستويات المختلفة في كل قصيدة. ذلك أننا وجدنا ان تغير المبنى العروضي- وان بدا عند بعضهم تنويعات وتشطيرات اتاحها الشعر العربي في عهديه، الاندلسي والعثماني- غير أسساً في الصنيع الشعري، ووجد صيغاً تركيبية ودلالية منوعة ومختلفة في السطر الواحد، كما في علاقات الجمل والسطور الشعرية بعضها ببعض. وهي تغييرات أفاد منها الشاعر وجرّبها، وأتاحها التأليف نفسه (بما أن القصيدة لم تعد نظما، وفق ما قاله الجرجاني، لمستويات القصيدة كلها في قالب مضغوط، ووفق توظيفية ترشيدية لها، كما هو عليه الحال في القصيدة العمودية).
موعد العام 1947 العروضي تلغيه، إذن، السوابق التجديدية المماثلة له والسابقة عليه، ما يدعو الى تدبير تاريخي آخر يعيد الى التجارب العربية المختلفة حظوظها المختلفة في السبق التجديدي. وهو موعد »ساقط«، إلا أنه يدعو الى التفكير بعوامل أخرى أدت الى تجديد الشعر غير التنويع العروضي، وهي عوامل موجودة قبل العام 1947، وإن حافظت القصائد فيها على العروض في صيغه القديمة. ذلك اننا عايشنا في مدى واسع من التجارب الشعرية تعايشاً نزاعياً، فيه عوامل تجديد وعوامل محافظة، في أشكال مختلفة في مستويات القصيدة: تمثَّل التجديد، بداية، في عوامل المعنى قبل أن يبلغ لاحقاً عوامل المبنى (وخاصة العروض)، على ما في هذا التمييز بين نوعي العوامل من تسرع والتباس وتداخل. وليس غريباً في هذا المسار الذي يعود، والحالة هذه، الى منتصف القرن التاسع عشر، أن لا يتحقق الانفصال التام، او تجديد مستويات القصيدة كلها، إلا بعد الخروج، ولو المخفف والتنويعي، من العروض- أعتى أبواب المحافظة المحافظة الشعرية وخاتمتها. عند ذلك تكون العودة الى الوراء لازمة تاريخياً لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في اطار المثاقفة، وفي ضلوع الشعر في تعايش (مختلف الأوجه، التآلفية والنزاعية) مع مرجعيتين، عربية وغربية.
هذا يدعو الى التعامل مع القصيدة، لا على أنها نص منسجم ومتوافق، بل على أنها نص متفاوت وله مرجعيات متعددة، قبل أن تتوافر فيه أو تجتمع مستويات التجديد المختلفة. وقد يكون من الأنسب، في هذه الحالة، النظر الى أوجه التجديد في صورة منفردة او متفرقة، فنتوقف عند كل وجه على حدة، فلا يغيب عنها، على سبيل المثال، لا حدوث التغيرات العروضية كلها، ولا دخول القصيدة مضامين جديدة، ولا تجدد سبل الانبناء النحوي والتركيبي: هكذا ميز خليل مطران، على سبيل المثال، في شعر الأمير شكيب ارسلان، بين كونه «حضري المعنى»، من جهة، و«بدوي اللفظ»، من جهة أخرى.
ذلك اننا لو أقمنا مثل هذه المراجعة، لتحققنا في النقد العربي من الاهمال الذي لحق بالشعر «العصري»، ومن المصير البائس الذي فاز به شعر »الحياة« (أو الشعر الرومانسي)، فجرى اسقاطهما من تاريخ الحداثة الشعرية. ويعود ذلك الى حسابات متأخرة، قوامها النظر الى الشعر وفق ما انتهى اليه، أي تدبير تاريخ جديد له يجعل مما وصل اليه الشعر في الستينيات أساس التقويم الشعري.
المراجعة لازمة، إذن، وتدعو الى التأكد من وجود مواعيد مختلفة للتجديد: مواعيد مختلفة في كل بلد وبين البلدان العربية، ومواعيد مختلفة او حظوظ متباينة من التجديد في هذا المستوى او ذاك من مستويات القصيدة: لهذا أقول ان موعد العام 1947 نفسه، وهو الأقرب إلينا، لا يمثل التجديد الناجز، على ما أعتقد، خاصة في القصيدتين الشهيرتين («الكوليرا» للملائكة، و«هل كان حباً؟» للسياب)، الموضوعتين في عام 1947، طالما انه لا يجرب سوى تغيرات عروضية، معروفة وسابقة عليه.
ولكي تكتمل أوجه المراجعة، قد يكون لزاماً علينا التخفف من مفاعيل مدونات نقدية عديدة سارية، ومن أسسها خصوصاً. من هذه الأسس التعامل مع التجديد وفق منظور سياسي- جغرافي، قوامه تأسيس الدول العربية نفسها، حيث بات لكل دولة تاريخها التجديدي المخصوص. ومن علامات هذا المنظور أيضا قسمة الأجيال، التي نلقاها في هذا التاريخ النقدي او ذاك، والتي تقيم أسباب الترابط بين هذا الجيل وذاك.
فلقد بتنا نعرف كتباً نقدية مختلفة تؤرخ للتجديد حسب خريطة «جامعة الدول العربية»، لا وفق تنقلات التجديد نفسه؛ ويتم التعويل بالتالي على الجغرافيا من دون التاريخ ذلك ان بعض نقادنا ومؤرخينا يسارعون الى إنزال الشعراء في سلاسل محلية متتابعة، قوامها تواريخ الميلاد قبل تواريخ النتاجات أحياناً، كما يسعون الى ايجاد أسباب علاقات لقاء وتباعد بين التواريخ هذه من دون تبصر او مراجعة: هل يستحسن، على سبيل المثال، ربط شعر البدايات عند محمود درويش بشعر فدوى طوقان أم بشعر نزار قباني وعبدالوهاب البياتي في آن؟ وهل يستحسن كذلك ربط شعر أدونيس في بداياته بشعر بدوي الجبل وعمر أبوريشة أم بشعر سعيد عقل تخصيصا؟
إن هذا المنزع متوقع طالما ان الدول العربية، وفيها كتابها ونقادها، قد سارعوا الى تجهيز عدة الدولة الضرورية واستكمال »هيئتها« الوطنية، ومنها عدة الشعر، حتى لو اقتصر الأمر على تجارب معدودة وقليلة التميز والحضور. وفي ذلك أدى الناقد دور «مأمور النفوس» الذي يسجل الميلادات مثل الوفيات، ويقيم شبكات مترابطة وفق المواعيد الزمنية هذه، ويجعل منها أساس التجديد الوطني الذي لا محيد عنه في الدولة العتيدة. إلا أن تأسيس هذه المساعي السياسية- الجغرافية يتحقق في أزمنة شعرية تهاوت فيها الحدود او تراجعت، ذلك أنها باتت تعني، في المقام الاول، حدود تأثر وتبادل، وقد تكون واقعة - وهي كذلك في بدايات التجارب خصوصا، لا عند اكتمالها- خارج البلد نفسه، وهو ما نراه في تجارب العديد من الشعراء العرب المجددين، في تلمساتهم الأولى خصوصاً: نزار قباني يرى الى شعر الياس أبوشبكة، وبدر شاكر السياب والاقرب يلتمس الى علي محمود طه... وماذا نقول عن شعراء لبنانيين عديدين، مثل خليل مطران وغيره، في مصر، وفي أي تاريخ شعري نقدمهم؟
هذا يقود الى النظر الى خريطة التأثرات والتبادلات الشعرية وفق منظور آخر، لا يضبطه موظف الأمن العام، ولا الجمارك، بل تطلبات التناقص التي يطلبها الشعراء، مدركين ان الشعر نفسه يتخفف اكثر فأكثر، في التجارب الحديثة، من المحددات »الوطنية« او السياسية وغيرها التي يتم ربطه بها وإحكام علاقاته بها.
هناك، إذن، علاقات وحدود أخرى غير حدود الجغرافيا والدول، على الرغم من وجود تجذرات محلية لهذه التجربة الشعرية او تلك، في بعض الاحيان. ان هذا السبيل، السياسي- الجغرافي، لا يفي بالغرض طالما أنه يقصر دراسة النتاج الشعري على تصنيفات خارجية (»الجيل«، »البلد«...)، وقليلة النفع، فلا تظهر، وفي آن، معالم التحدد في كل تجربة (وقد تكون جماعة شعرية في بلد ما)، ومعالم التبادل (في حال وجودها)، عربياً وأجنبياً، على ما في التحديد، في الحالتين، من مصاعب طالما ان الحدود واهية ومعالم التأثر والتفاعل خفية وحاذقة. فهل نقول، والحالة هذه، إن اساس التجديد قائم بالتالي وفق اعتبارات تقنية- أسلوبية؟
هذا ما سارع الى اعتماده غير ناقد إذ جعل من عوامل او ظواهر تجديد يلقاها في هذه التجربة أو تلك، او مما جمعته المجلات الأدبية فوق صفحاتها من شعراء مختلفين، اساساً قوياً لتعيين التجديد بل لفهمه. وهي معطيات جرى جمعها فوق مكتب النقاد، لا في وقائع التاريخ الشعري نفسه. إذ أننا لا نقوى على إغفال حاصل حركات ثقافية وسياسية وغيرها في هذا البلد أو ذاك، ولا التغافل عن مفاعيلها في تجربة هذا الشاعر او ذاك: لا يمكننا أن نفهم تكوين خطاب عن «لبنان» (شارل القرم، إلياس أبوشبكة، سعيد عقل، صلاح لبكي...)، أو عن «العراق» (محمد مهدي الجواهري، بدر شاكر السياب... حتى الشعراء المتأخرين في العراق) في الخطاب الشعري المعاصر ضمن منظور الشعر «الوطني»، وحسب، ذلك انه قد يجدده ولكنه يتعداه كذلك. وهو خطاب يقوم في تجارب لبنانيين على مقادير من التجريد المثالي، الذي يجعل «لبنان» أشبه بمحتوى من المتعاليات متحقق في الدنيويات، فيما نجد الخطاب عينه في العراق يقوم على تنزيه آخر، ولكنه مختلف، قوامه الحديث عن البلد بوصفه »الضحية« الدائمة والمجردة عما يصيبها من عسف وظلم.
هكذا يمكن التحقق في صورة مزيدة من حصول تأثيرات وتبادلات ذات أساس تقني وأسلوبي، نلقى آخر صورها في انتشار نمط معين لقصيدة النثر في تجارب شعراء عرب عديدين، متأتية من تجارب لبنانية في المقام الاول. كما يمكن الحديث عن تأثير قصيدة اليوناني يانيس ريتسوس على شعراء عديدين ممن اعتنوا بقصيدة »التفاصيل«، كما تسمى. وهو ما يتأكد بفعل الاتصالات المتزايدة وتبادل المعلومات في فضاءات الشعر ومجلاته ووسائطه التعريفية، ولا سيما في دورات الاسواق ومعارض الكتب.
النص والزمن
يفتقر النص العربي الحديث، إذن، الى اوجه درس متعددة تراه في ما قبله، ويحيطه ويبنيه، في آن، أي ان الدرس يفتقر الى اعادة الشعر الى حيث كان، أي في النظام الثقافي والمتعالي، وفي نطاق التداول: فتنويع القافية ليس شأناً تقنياً مثلما نظر اليه البعض، وإنما هو خروج من نظام يتعين في علامة منه. والالتفات الى «التوموبيل» او «التلغراف»، او «المغنطيس» تخل عن موضوعات الشعر الاثيرة، والتفات الى غيرها، الى جديد تبصره العين في الوجود، لا عين الذاكرة والتقليد. خروج متعدد، ومختلف، ومتباين بين هذه البيئة وتلك، بين هذا الشاعر وذاك، وقوامه الابتعاد عن نظام »الواحدية التمامية«، كما اسميه، الذي كان يمحض الثقافة، ومنها الشعر، مثالها وأفقها.
قد يشير الكلام عن »الواحدية التمامية« الى انتفاء التغير في القصيدة العربية القديمة، وركونه الى مثال واحد ومتماهٍ مع نفسه، فيما لا أطلب ذلك من هذا المفهوم، وإنما أريد منه الاشارة الى تحكم نظام سابق، جماعي، بقصيدة الشاعر وبالحكم عليها. فقد كانت هناك أنظمة وقواعد وأغراض تحدد الشعر، وتحدد ممارسته، سابقة على لحظة الكتابة وتالية على لحظة التلقي. وهو أمر تلقاه في غير صناعة قديمة، يشمل الشاعر مثل المزخرف او المزوق، ويعين ارتضاء خاصة الجماعة وتواضعها على هذه الاسس، أي يعين مراتب الذوق والتعيين في الجماعة من نقاد وفقهاء وأمراء وغيرهم؛ وتشير هذه القواعد المتفق عليها الى تمام صورة الجماعة عن نفسها، فلا يصيبها خدش أو زيغ او اختلال. لهذا فان كسر البناء التناظري للقصيدة القديمة هو أكثر من تخل شكلي عن بناء، وان اكتفت بها بعض التجارب الشعرية في عدد من أمثلتها، إذ يشير في حركته الى ما هو أبعد من ذلك وهو انتهاء القصيدة الى الشاعر نفسه وتكفله بها.
خروجٌ، إلا أن له شكل بناء مختلف للقصيدة العربية. شكلٌ يتعين في تخلص القصيدة من شكلها القالبي المحسوب، وفي بلوغها شكلاً متغيراً عند كل شاعر، بل في كل قصيدة، فلا قصيدة تشبه غيرها، لا في هيئتها الطباعية، ولا في هيئتها التوزيعية لجملها وأسطرها ووحداتها الايقاعية. وعلى الدارس ان يتبع القصيدة بالتالي في كل لفظ، في كل سطر، لكي يتحقق مما تبنيه، إذ أن بناءها لاحق، لا مسبوق بأية حال.
هذا ما ينشئ القصيدة وفق علاقة جديدة ، أجملها في الحديث عن الشاعر والزمن، إذ باتت القصيدة تتعين في عمل الشاعر عليها، وإن يلتقي عمله مع غيره، في ما يتأثر به أو يقترحه على غيره من شعراء. عمل واقع في الزمن، داخلٌ في علاقة معه، لا يعود معها الشعر عملاً نظمياً، بل نوعاً من الممارسة الوجودية، من العمل الموقعي الذي يطلب أثراً في الزمن، ومع الآخر.
وهو خروج توافرت له أساسا قاعدة مادية تطلقه وتتبناه، تتلقاه وتنشره. قاعدة صنعية أساسا باتت تجعل المدون صنيعاً كتابياً، طباعياً. ما يحتاج الى فحص وعرض ودرس في حد ذاته. إذ لم يتم كفايةً درسُ انتقال تدوين القصيدة فوق حامل مادي من الوراقة الى الطباعة، ومقتضيات ذلك على بناء القصيدة الحديثة في مستوياتها كلها. فنشرُ القصيدة في كتاب، أو فوق صفحات مجلة، وفر اعداداً لها، وانتشاراً مختلفاً لها، يتعدى البلاط او »المربد« أو مجالس العلماء والشعراء او عمليات نسخها وغيرها، ويبني وسطاً تداولياً جديداً لها ينعقد حول »القارئ«، وحول علاقة جديدة، هي العلاقة الانفرادية. ففي مدى القرن التاسع عشر نتحقق من استمرار جلسات الشعراء والعلماء والفقهاء كوسط تداولي نقدي للشعر والشعراء، قبل ان نتحقق من تحول المنشورات الصحفية، بين جريدة ومجلة ودورية، ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الى وسيط حواري واجتماعي جديد ينقل «معارضات» الشعراء و«أحاجيهم» و«ألغازهم» قبل ان تتوجه هذه المنشورات الى »قارئ« لا تعرفه اذ تتوجه اليه.
غير أن درس عواقب او مفاعيل دخول الطباعة على القصيدة العربية يتعدى مسألة النشر نفسها، ليشمل بناء القصيدة بمستوياتها كلها: هذا ما سبق لي درسه في الهيئة الطباعية للقصيدة، او في »سياسات« العنوان؛ وهو ما سبق لي درسه كذلك في تكوين القصيدة، في بناء «المجموعة» او «الأعمال» الشعرية وغيرها من طرق مثول القصيدة: مثولها في بنيتها نفسها على انه مثول مختلف للقارئ. بات النشر الطباعي للقصيدة معطى ابتدائياً، بل سابقا، تنبني القصيدة وفق مقتضاه، بل »تستغله« إذا جاز القول، ما تعين في الخروج من «جمالية السماع» الى «جمالية القراءة»«. هذا ما دعاني في احد كتبي الى القول بأن الشاعر الحديث لم يعد أعمى، بل مبصراً وفناناً في تشكيل القصيدة، سواء من ناحية توزيع ألفاظها وسطورها فوق الصفحة الطباعية، او من ناحية بنائها الايقاعي الذي لا يقتصر على نَفَس الشاعر بل على توالي القصيدة الطباعي. فـ«وحدة البيت»، بمعنى من المعاني، في القصيدة العمودية، شرط ملازم لجمالية السماع، تبعاً لما يسمى بـ«القراءة الصامتة». وهو ما يستطيعه القارئ في تتبع القصيدة، في الكتاب، في المجلة، في تتبع سطورها، إذ يقوم فعله على الغاء الزمن التتابعي بوصفه شريط السماع، لصالح قراءة فردية، قابلة للتقدم كما للتراجع، للاستعادة كما للقطيعة؛ أي أن القارئ يعول على الزمن، على التغوير فيه، وهو الزمن بمعناه الاجتماعي والتاريخي والتواصلي. يقول الشاعر المغربي محمد مختار السوسي:
«ما الشعر موزون بقافية له معنى بأسماع الجليس مديدُ
لكنما الشعر الذي إن جاء في الأسماع يذهب بالفتى ويعود»
هكذا تذهب القصيدة بالفتى وتعود، وباتت وسيطاً تداولياً بينهما؛ وسيط حامل لإبلاغات، لحوارات، متمادية، مما يفتح المعنى على مجال التأويل. هكذا لا تعود القراءة فعل تلاوة. بل تصبح فعل تأمل وتوقف واستعادة، بعد أن أتيحت للشاعر فرصة بناء القصيدة بناءً يشي باحتمالات تركيب وتكثير للمعنى. هكذا اختفت او قلت أمكنة اجتماع الشعر، مثل الجلسة، او الحفل، لصالح جلسة الانفراد بها: خرجت القصيدة بذلك من القصر الى البيت، ومن «الحلقات» الى التظاهرة والمدرسة، ومن لحظة الخطابة الى لحظة الاستغراق. هكذا بات القارئ شريكاً في القصيدة وأفقاً لها: شريكاً مسبق في الانتاج على أنه أيضاً أفق مرتجى للقصيدة.
هذا يعني ان القصيدة باتت محل انتاج في التواسط الانساني والاجتماعي، في مبثوث المعنى كما في أفقه التاريخي أيضاً. ولقد أعطى النقد لهذا التواسط تسميات عديدة، مثل علاقة الخاص بالعام، والتأثر بالمحددات الحزبية والايديولوجية، او الحديث عن موقف الشعر والتزام الشاعر، فيما تعبّر هذه التسميات عن موجبات عقد بات طوعياً بين الشاعر والقارئ، يتجدد أو ينقطع عند شراء أي كتاب شعري، او عند الذهاب الى أمسية شعرية. وهو ما يفسر جوانب من »اجتماعية« الشعر العربي الحديث، أي كونه مدونة حافظة لحوار مبثوث، وإسهاماً في الحوار كذلك. غلا أن طلب الحوار لا يخفي مواقع الشعراء أنفسهم اثناء الحوار، إذ يطلبون من الشعر عمليات اجتماعية ورمزية تقوم على التصدر، الذي يعول في هذه الأحوال على رسم علاقات رمزية وتعبيرية بين السياسي والتخيلي، وبين الأخلاقي والانشادي. هذا ما جعل النص الشعري »شفافا« في مثوله، كما أسميه.
التكثـر والمباينة
هذا ما أجمله في خروج القصيدة من نظام «التمامية الواحدية»، أي من الاحتكام الى نظام لا يرى الشعر إلا في صورة واحدة، وتمامية، أي ناجزة وفق نظام موضوع، سابق، فيما هو يعني تقيد القصيدة لا بمثال بل بمقتضيات يوجبها النظام الثقافي والمتعالي في ضروراته الاجتماعية. يفيض المجال عن تتبع ودرس المقتضيات الاجتماعية التي أوجبت تنظيم الشعر، ولا سيما المدحي، في سلوكات وسياسات، ولا سيما منذ العهد الاموي، وقادت الى تدبر أسس في الصنع الشعري، وفي تذوقه والحكم عليه، جعلت المتنبي، على سبيل المثال، يطلب في نوع من المفاوضات حول موقعه الشعري، عند المثول في حضرة سيف الدولة، الجلوس بدل الوقوف في حضرته. إلا انه مثلٌ نادر إذ بقي الشعر، حتى في الانواع الأكثر بعداً عن اللزوم الاجتماعي في وضعها وتلقيها، مثل الغزل والرثاء، رهين مواضعات واتفاقات، يتباين النقاد في تفضيلها عند هذا او ذاك، على انها محل الحكم الوحيد للشعر. وإن خرج بعضهم عن هذا الاجماع الشعري، فلا يعدو خروجهم ان يكون خروجاً بديعياً، أي يقوم على تدبر معالجات فنية، بلاغية، تقنية، جديدة، مشبعة كذلك بتدبر القصيدة تدبراً يستند الى التخييل أكثر من الاتباع والموافقة. ويفيض المجال كذلك عن معرفة ما اذا كانت القصيدة القديمة تتبع الضرورات التي أوجبها طلب الاجماع الشعري، الذي يستند الى شروط المنافسة بين البلاطات، وبين النقاد، في دورتهم الموصولة التي تدبرت أسس المفاضلة، إذ جعلتها تنشأ في البيت الواحد، في الغرض الواحد، مما يمكن حسبانه والحكم عليه.
خرجت القصيدة من هذا النظام وباتت تبتدئ من الشاعر نفسه، بما يعرضه ويقدمه لغيره، بما فيهم النقاد أنفسهم، والقراء كذلك. هذا أوجد قصيدة، بل قصائد متغيرة، متخالفة، يصعب التفاضل الشديد أو المحسوب بينها، وباتت القصيدة «عالماً في حد ذاتها»، كوناً مقيماً في بنيتها المتخيلة، ما أدخلها في التعدد والتنوع والتخالف والمغايرة والتكثر، أي ما اخرجها من الواحدية، ومن التمامية كذلك، إلى التباين والتكثر. هذا ما جعل القصيدة موصولة وقائمة على التغير الزمني، إذ أن ما يحسبه البعض من الشعراء والنقاد في باب التميز الفردي، بل العبقري، لدى هذا الشاعر أو ذاك، لا يعدو كونه التحقق الأمثل لعلاقة مفتوحة ومطلوبة مع الزمن، بوصفه منبت التغير والحدوث والتجدد والتفرد بالتالي.
هذه الصلة بالزمن تكفل القصيدة، إذ تجعل الشاعر قواماً عليها، فتبتدئ القصيدة من ملكته، من تدبيراته، من كون النص صنيعاً بين يديه. وهو بقدر ما يعين الخروج من «واحدية تمامية»، يعين »فردانية قيد التبلور«: الواحد عينه اعتقاداً ونظاماً وقواعد، الذي يطلب من الشعر (وغيره) أن يأتي موافقاً لنظام من المتعاليات لا يستقيم الا بالتمامية نفسها، أي بخلوصه من أي عطب أو تعدد او تشوه يدخله من مجرد المغايرة، او التباعد مع تمامية النظام الواحد.
ابتداء القصيدة من الشاعر، إذن، ما يعني انها باتت مثل القماشة للمصور، سطحاً مادياً لا حاملاً للتعبير وحسب. أي أن الشاعر لا يطلبها لقول ما يريد، وإنما بات يعرف كذلك أنها حاصل يتدبره بالعمل، أي بما يصرفه للألفاظ والسطور والمقاطع من معالجات وحلول ومصائر. وهو ما يجد صوره وهيئاته المادية واللفظية المتكثرة في التفعيلية الإيقاعية المتنوعة، أو في الخفاء المتباين للايقاعية النحوية في »القصيدة نثرا« او »القصيدة بالنثر« (كما استحسن تسميتها وفقا لأصلها الفرنسي). وهذه الحرية المكتسبة على حساب النظام يذهب بها الشاعر أبعد من ذلك، إذ ينطلق منها صوب التخييل، صوب مجهول التراكيب والدلالات. بل يمكن القول ان القصيدة الحديثة تكاد أن تعطل قدرة الافصاح في اللغة، وتبلبل »صوابية« المعنى التي كانت للقصيدة القديمة. وهو خروج آخر من التمامية عينها، إذ أن الشاعر لم يعد يطلب الموافقة بين اللفظ وخارجه، إذا جاز القول، أي بين اللغة والواقع، وإنما يسعى الى ما تقوله الألفاظ أبعد من مراميها الواعية او المقصودة، صوب تخييل مفتوح على التكثير، وعلى تسرب المعنى، لا على تركزه.
هذا ما أوجب اجتماعية أخرى للقصيدة الحديثة، تقيمها في علاقات وتبعاً لمواقع متغيرة، متعددة بل متخالفة. وهي اجتماعية تتعين في قطاعي التعليم والصحافة خصوصاً، إلا انها تسعى الى عقد صلات مع خارجها الاجتماعي، يمكن التدليل عليها في استهدافات الصوت الشعري من أقواله، أي ما تطلبه في خارجها. فهناك صوت شعري يطلب من القصيدة أن تكون «وحياً صادقا» مثلما وصفها الشاعر المغربي محمد القري (-1937)، أي استمداد الشعر من الموقع النافذ، ما يصل الشعر بمصدرين: قديم وطالب للتصدر باسم الشعر، وجديد وهو الاستمداد والتعين في الحوارية الاجتماعية (وصفة الصدق هذه طلبها غير شاعر، مثل المغربي محمد بن العباس القباج الذي قال بدوره ان الشعر «صورة صادقة لخلجات نفس صاحبه»: صوت يطلب التصدر على انه موافق لغيره، وصادق في ما يعبر به عنهم. وهناك صوت شعري آخر يذهب وجهة اخرى في طلب التواصل، إذ يعلن مثل الشاعر المغربي محمد مختار السوسي: «لم لا أقول الشعر كيف أريد»، ما يؤسس القصيدة على قول فردي في منطلقه، والتحاور على أساس تعاقدي بين متكلم ومخاطب، لا بين خطيب- متصدر وقوم في حفل جمعي. وهناك صوت شعري ينأى بالقول الشعري الى منابت ومناخات أخرى، بعيدة عن الحفل والتظاهرة، والغرفة الحميمة، طلباً لهواء التغير في الشارع، او في المقهى (إذا طلبتُ التعيين). وهناك صوت شعري يبتعد بالمعنى الى صفحة الكتابة نفسها، وربما الى الصفحة الالكترونية نفسها، طالباً منها ان تكون ماثلة وشفافة في آن، وفق علاقات معقدة بين التغييب والجلاء الانسانيين. وهناك أصوات تغور، بل تخفي الينابيع التي تنهل منها.
أصوات تطلب الكلام العالي، وبعضها الصراخ؛ أو تطلب المساررة او المكاشفة او البوح او التشكي المستغرق في لججه؛ أو تطلب إطلاق الكلام باتجاه أصوات خافية... أصوات تنبئ بما هو ابعد من التواصل كما تتحدث عنه بعض الدراسات، إذ تنشر المعنى مثلما تستعيده وفق مبان تخييلية باتت تحيد عن تمامية مطلوبة ومستهدفة بين القصيدة والنظام المتعالي والثقافي، وتحيد كذلك عن »صوابية« مطلوبة ومستهدفة بين القصيدة وخارجها.
هكذا باتت القصيدة تزيغ عن أن تكون مبنية وفق قواعد، وجعلت من صنعها الخاص، بل من لهوها، من عبثها بالنظام، غرضاً للشعر. هكذا بات الشاعر لاعب نرد، وفق استعارة مالارميه، على أن القصيدة حجره الذي ينقلب على الصفحة بتدافعات اللاعب في الوجود نفسه.
(ورقة عمل في مهرجان الشعر العربي"، الرباط، 2003، ثم نشرت في مجلة "شعر" (المصرية)، 2003، العدد 3).